يكشف عبدالمجيد جحفة عن أسس بعض التصورات الثقافية المرمزة للسلطة والفحولة، وما شابههما، مسلطا الضوء على هذه التصورات، وعلى العلاقات التي تشيدها فيما بينها، وعلى طرائق التفكير والسلوك المستمدة منها.

ويرى عبر كتابه «سطوة النهار وسحر الليل»، الذي حمل عنوانا فرعيا «الفحولة وما يوازيها في التصور العربي»، أن تفكيك هذا البنيان من شأنه أن يساعد على فهم جزء من المعلومات التي تُبنين بعض الأنشطة اللاواعية، وأسس بنائها في ثقافتنا.

ولفت «جحفة» إلى أنه في كل حالات الوعي غير المباشر يوجد الشيء الغائب في الشعور عبر «صورة»، وذلك بـ«المعنى الواسع لهذه الكلمة»، وتلتقط اللغة هذه الصورة، فتبنيها في نظامها الرمزي التعبيري، وفي نظامها النحوي.

المرور من اللغة

لـ«المجاز» كيفية في التفكير، وكيفية في بناء الحقائق التي نؤمن بها في كل مجالات حياتنا اليومية، فأنشطتنا وتصرفاتنا العادية لها طبيعة مجازية، بحيث إننا نبني مشابهات بين طبقات مختلفة من تجاربنا، ونحيل على تجربة معينة من خلال تجربة أخرى. ويقول الكتاب: «المعنى المجازي، كما يقول دوران Durand، وحده دال، وما يسمى «معنى حقيقيا» لا يعدو أن يكون حالة خاصة وشحيحة داخل المجرى الدلالي الواسع.. إن المعنى الحقيقي اعتباطي. أما المعنى المجازي فله نسقية بناء، وهذه النسقية جزء لا يتجزأ من كيفية بناء البشر المعاني والتصورات والحقائق التي تباشر بها الحياة. كما أن للمعاني تاريخا غابرا تظل المعاني الآنية تحبل به، إذ قد يكون المعنى الآني نتيجة مجازات حدثت إثر تكوّن يمتد في الزمن».

عموما، فإن دراسة نظام تعبيري ما تفرض المرور من اللغة، ذلك أن البشر لا يمكنهم أن يعبروا إلا عما تسمح لهم اللغة بالتعبير عنه، أي ما تصوره برموزها، واللغة تفرض علاوة على ذلك مكتسباتها، والمحتوى الثقافي لذاكرتها.

مجاز السلوك غير اللغوي

ينبغي على الباحث في المعاني أن يجيب عن قضايا من قبيل «طبيعة التصورات»، وكيفية تحديدها، بالإضافة إلى كيفية نشوئها وبنينتها، وارتباط بعضها ببعض، ولا يمكن أن نتجنب في هذا المجال القضايا النفسية والثقافية المرتبطة بالتجربة، والتي تكون مسؤولة عن جزء مهم من القضايا المشار إليها. وإذا كان الارتباط بين الثقافة والتجربة هو الذي يحدد التصورات، ويمنحها الوجود، فمعنى هذا أن التجربة لا توجد خارج الأطر الثقافية، فكل تجربة تقع داخل إطار واسع مشكل من التضمنات والبديهيات الثقافية. بهذا المعنى، تتشكل التصورات داخل نسق تصوري يعكس إطاره، أي يعكس ذلك الترابط القائم بين الثقافة والتجربة، وتقوم بنينة هذا النسق في جزء كبير منها على المجاز، ولهذا السبب ليس المجاز سلوكا لغويا فحسب.. إنه يمتد إلى السلوك غير اللغوي، ويمكن القول إن وجود المجاز في اللغة إنما هو نتيجة ما يوجد من مجاز في السلوك غير اللغوي.

اللغة والإدراك

تعتقد الدراسات التقليدية أن الاستعارات والكنايات ما هي إلا تعبير من نوع آخر من علاقات موجودة مسبقا، ويُدعى هذا التصور «التصور الموضوعي»، والمشابهات والمجاورات خاصية تمتلكها الكيانات في ذاتها بغض النظر عمن يتعامل معها في التجربة، فالأشياء تتشابه أو تتجاور موضوعيا تبعا لخصائصها الذاتية. ومن نتائج هذا التصور أن المجازات لن تكون صادقة بصورة مباشرة، وإنما تصدق من خلال ما يقابلها من معنى «حقيقي». ولعل هذه النتيجة مبنية على مسلمة أن الواقع تصفه اللغة دون لبس أو غموض، ويمكن أن نسمي هذه المسلمة «مسلمة استقلال البنية عن الملاحظة».

ننطلق من تصور مخالف، فاللغة عبارة عن نظام معرفي يُرمز مختلف المعارف والملكات التي يتوفر عليها الكائن البشري، والمعرفة نتيجة بناء ذهني، واللغة والإدراك والمعرفة أشياء تابعة لبعضها بشكل غير قابل للانفصام، وهذا التصور يعطي دورا مهما للاستعارات، سواء بالنسبة للغة أو بالنسبة للفكر، ويميل إلى إلغاء التمييز الصارم بين ما هو استعاري وما هو فيما أن المعنى في هذا التصور يبنى عوضا أن يكتشف، فإن معنى الاستعمالات غير الحقيقية للغة لا يُعد مشكلة خاصة.

بين القلم واللوح

يقول «ابن عربي»: «الأرواح كلها آباء، والطبيعة أم لما كانت محل الاستحالات». ويرى الكتاب أن «ابن عربي» يحاول أن يفسر هنا علية الاستحالة والحدوث بواسطة استعارة الإنجاب التي تتضمن الأب والأم، والسبب الجامع بينهما، وهو النكاح، فكل الخلق ناتج عن نكاح معنوي،

إن مفهوم القداسة لا ينسحب على الفعل الجنسي الشرعي وحده (سواء أكان معنويا أم ماديا)، بل إنه يغطي كذلك فعل القلم (وهو التسطير).

المرأة والرجل والكتابةيرتبط مفهوم الكتابة بالمعرفة والثقافة بمعناهما العام، والكتابة مفهوم تسلطي يلبس كل أشكال السلطة، ويستعملها دعما للذات ودرءا للدخيل، وبذلك فهو يعكس بصورة مجازية كل ألوان القهر السلطوي، ويزودها بدعم حيوي لا مثيل له. وعندما تطرح ممارسة المرأة الكتابة، يتم تناولها في الغالب الأغلب خارج الأسس الثقافية التي تبني علاقتنا بالكتابة، وبالمعرفة (عموما)، نساءً كنا أم رجالا، ولا نرى مانعا إذا سايرنا طرح «الكتابة النسائية» أن نقول بوجود ما يمكن أن نسميه «الكتابة الرجالية»، ونستعمل هنا مفهوم «الكتابة الرجالية» بوصفه مفهوما وصفيا فحسب، لا يحمل إلا قيمته المحايدة (المنحازة في الحقيقة)، ولنفرق بينها وبين الكتابة الرجولية المستندة على مفهوم الفحولة والانتصار للذكورة، التي تحمل قيمة مميزة.

عموما، نفترض أن الكتابة لها طبيعة ذكورية، نسائية كانت أم رجالية. صحيح أننا سنعثر على تمايز بين النوعين، ولكن ليس من حيث الطبيعة، بل من حيث النتيجة، فالتمايز كائن في أصلية الكتابة أو استعاريتها، بحيث ترمز الوضعية الأولى إلى كتابة الرجل، بينما ترمز الوضعية الثانية إلى كتابة المرأة.

عبد المجيد جحفة

*وباحث جامعي مغربي

متخصص في اللسانيات

من نتاجه:

* الزمن في اللغة العربية *

مدخل إلى الدلالة الحديثة

ترجمات:

* سيدي شمهروش الطقوسي والسياسي في الأطلس الكبير

* نظرية نسقية في الحجاج.. المقاربة الذريعية الجدلية لفرانز فان إيمرن