ترى جيرمين تيليون أن الشكل المتطرف من اضطهاد النساء في بعض المجتمعات خلال حقب تاريخية، ليس سلوكًا شاذًا يقتصر على عالم المسلمين، فهو جزء من ميراث مستمد من الوثنية ما قبل التاريخية، والتي لا تزال تثقل المجتمعات المسيحية والمسلمة سواء بسواء.

أما الابتكار الاجتماعي الفريد الذي عرفه المتوسط، حيث يسترخي المحرّم القرابي ويشيع زواج أبناء الأعمام (وهو ما تسميه الباحثة جمهورية أبناء العم) ، فهو ما يؤسس لتدمير وضع المرأة، كما لظروف أخرى اقتصادية وإنجابية تعود عليها بالسوء.

وتضيف جيرمين في كتابها (الحريم وأبناء العم / تاريخ النساء في مجتمعات المتوسط) ترجمة: عز الدين الخطابي وإدريس الشافي (إذا كانت سواحل المتوسط الشمالية قد غادرت جمهورية أبناء العم» إلى «جمهورية المواطنين الحديثة ولو أنها خلفت تأثيرات عديدة على المجتمعات الأوروبية والأمريكية)، فإن سواحل المتوسط الجنوبية والمسلمة لم تفعل ذلك بعد.

القواقع الفارغة

دعمًا لأطروحتها، تستنجد تيليون بأعمال مكتبة تمتد من هيرودوتس إلى القديس بولس وابن خلدون، كما تعتمد على الأسطورة والأدب والإثنوغرافيا والتاريخ الشخصي والتنقيب السوسيولوجي وقصص الحياة اليومية البديعة في جمهورية أبناء العم.

وتتنوع فصول الكتاب التسعة ما بين عناوين (التوزيع الجغرافي للحجاب يطابق الإرث النسائي، السنوبيزم البورجوازي، سبعة آلاف سنة من هدم البنى القديمة، اختلافات بين التاريخ والإثنوغرافيا، المدينة التي تأكل الأطفال، وصول البالغين المثقلين بالقناعات، في منتصف طريق التطور، عدد النساء المحتجبات يتقدم في الضواحي، النساء والحجاب، العالم القديم فيما وراء المغرب العربي. تأثير النساء اللامرئيات، الاحتفاظ بكل فتيات العائلة لذكورها، الموضات النسائية نموذج للاستمرارية، رکام هائل من القواقع الفارغة، أوراق دائمة وجذور متلاشية بفعل القدم. النساء مثل الحقول: جزء من الميراث، الثورات تمضي لكن الحماوات يمكثن، الحضر والرحل العشيرة السلتية والفرقة البربرية، النبل والشرف لا يمكنهما أن يتحققا، الاختلاط).

ما يراه المتكلم

أطروحة الكتاب تتموقع داخل مناطق علمية محايدة على حدود التاريخ وما قبل التاريخ والإثنولوجيا والسوسيولوجيا، حيث يحاول الكتاب إضاءة بعض الأماكن المظلمة الكلاسيكية نوعًا ما. فالتصور الذي تخضع له الدراسة يتمثل في رؤية التاريخ، المساحة التاريخية، العصر التاريخي، بل حتى الفضاء التاريخي، بنظارات الإثنولوجيا ذات الفائدة بالنسبة إلى من هم في حاجة إلى التعلم. وتقول المؤلفة: (الإثنولوجيا) ليست مجرد ( علم الإنسان)، بل هي نزعة إنسانية أيضًا ، تشغل على مستوى تبادل التعارف بين الشعوب، حيزًا موازيًا في أهميته للدور الذي يلعبه الحوار على مستوى الأفراد، فهناك حركة متواصلة للفكر الذي يتم تصحيحه باستمرار.

ففي الحوار، مثلما هو الشأن في الإثنولوجيا، نكون اثنين، فهناك محاور (كائن مجهول، شعب مجهول) يقابله كائن آخر ذلك الذي نعرفه أكثر، وذلك الذي نعرفه بشكل أقل ويباشر الحوار كما يبدأ المكوك عملية الذهاب والإياب، وفي أثناء كل عملية يتغير شيء ما ضمن الجانبين لا ضمن جانب واحد، لأن ما يدركه المحاور بنفسه يخالف ما يراه المتكلم، والعكس بالعكس. لكن في المقابل، فإن كل واحد يرى في نفسه ما يجهله الآخر عنها. إن هذه المواجهة ستبرز رسومًا متوارية وسيحدث على هذا الأساس شيء شبيه باستكشاف جوي لمشهد طبيعي ما.

تقسيم العالم

تبرر الكاتبة عنونة الكتاب بـ (الحريم وأبناء العم) بقولها «أردت إثارة الانتباه إلى خاصية تجعل المجتمع المتوسطي التقليدي معارضًا للمجتمعات الحضرية وللمجتمعات المسماة متوحشة في الوقت نفسه والخاصية هذه هي بلا شك، أصل الإذلال العنيد الذي طاول وضعية المرأة، لذا كان من المهم، وربما من المفيد، العمل على تتبع التشويهات التي لحقت بهذه الوضعية في الزمان والمكان. وإذا ما أردنا تقسيم العالم إلى ثلاثة أجزاء، بحيث يشكل كل جزء فيه بنيته الخاصة، فإن في إمكاننا، ولأسباب بديهية إطلاق اسم جمهورية المواطنين على الجزء العصري، أما بالنسبة إلى المجتمع المسمى متوحشًا، فإن حوافز مألوفة لدى الإنثروبولوجيين تسمح بإقرار لقب «جمهورية الأصهار» كتمييز لهذا المجتمع. والمقصود بالأقرباء الشرعيين في الواقع جميع الأفراد الذين يحملون الاسم نفسه ويعيشون في المنطقة نفسها. إن أحد الزوجين يكون لزامًا عليه إذن مغادرة منطقته، وهذا اللزوم الذي يتوافق مع حذر جاد اتجاه والدي الزوج».

بلا خمار

تقارب الكاتبة بين البلدان المتوسطية (أو المتأثرة بالبحر الأبيض المتوسط مثل الجنوب الغربي الأمريكي أو أمريكا اللاتينية) فتقول (على الضفاف المسيحية للمتوسط، يمكننا أن نتبع الرسم المتعرج لحدود لا مرئية: ففيما وراء هذه الحدود، تتنزه الأسر يوم الأحد مجموعة، وتتردد على المتاجر نفسها، وتجرؤ امرأة في قريتها الخاصة وبصحبة عضو من عائلتها، على تناول مشروب غير كحولي في مقهى ما، كما يمكن لقروية يتجاوز سنها 35 سنة أن تظهر وسط العموم بلا خمار أسود على الرأس. وعلى المنحدر الداخلي لهذه الحدود يمشي الرجال بمفردهم في الشارع ويتجهون بمفردهم.

جيرماين تيليون Germaine Tillon

(1907- 2008)

عالمة فرنسية في الاثنيات وباحثة انثروبولوجيا

درست في معهد اللغات والحضارات الشرقية بباريس وكلية اللوفر.

أرسلت من طرف الجيش الفرنسي لدراسة مجتمعات الأوراس في الجزائر.

تحصلت على العديد من الأوسمة لانخراطها في صف المقاومة الفرنسية خلال الحرب العالمية الثانية

عام 1999 كانت ثاني امرأة فرنسية تتحصل على وسام جوقة الشرف صنف الصليب الكبير

*مجالات دراساتها:

أركيولوجيا في مدرسة اللوفر

التاريخ السحيق

تاريخ الأديان

علم المصريات

الفولكلور الفرنسي والسلتي

علم الأعراق البشرية

*أمضت ثلاثة أشهر بين قبائل الطوارق في الصحراء، قبل أن تعود إلى باريس.