«رامة والتنين» و«الزمن الآخر»، وهما وجهان لأيقونة ثلاثية في سبيلها - بعد - للاكتمال، نداء موضوع لامرأة فينيقية متعددة الأقنعة، «مازلت أناديك رامة.. إنها.. ماندالا.. امرأتي... مينائي.. مغارتي.. منامي.. کرامتي..». نداء له صدى قبيل نهاية «الزمن الآخر» «ماريا، ماريا، يارؤوم، يا من سقيت لبن الأمجاد جميعا، مرارة انهمار حبك المدرار مريئة وسائغة السلسال، هي المن والسلوى أنت امرأة المرآتين، الساطعة والسوداء، كلتيهما».

على الرغم من الأقنعة - التجليات المتعددة في «رامة والتنين» - و«الزمن الآخر»، فهناك، على الأقل، شريان دون كيشوت يضرب في صلب الرواية، ويعمل في الشخصية. الفارس القديم المتجدد أبدا يفيض دائماً بعرام بحره الزاخر المتلاطم، وما من شك في أن ميخائيل والعمل الذي يحيا فيه، قد التاثا بقطرات على الأقل من خير دون كيشوت وموج جماحه. وعندما يقول ميخائيل:

»قيل لي أيضاً إن مياه النيل لا تفيض أبداً إلا عندما ينزل الملاك ميخائيل، في ليلة عيده، على أرض مصر. ویبکي. فإن ذلك قد يصدق أيضاً في أنه لولا أن نزل دون كيشوت على أرضنا، فلعل مياه رامة وميخائيل كانت ـ على الأقل - تغدو أقل جيشانا، وأحوج إلى كثافة ما. ربما كان هذا أحد الأسباب التي تلجئني إلى تأويل ميخائيل بدون كيشوت. (وسأقفز، بسرعة، هنا، على تلك الهوة التي تتربص بأي كاتب يتجاسر على تأويل عمله. أليست هناك مسلمة ما بأن على الكاتب أن يصمت بمجرد أن يضع القلم؟ فهل يكون من أعذاري أني لم أضع القلم تماماً، وأن هذه التأملات قد تكون أيضاً من تخطيطات مسودة لنص ما زال مفتوحاً - في ظني على الأقل؟). إدراك ميخائيل لنفسه. في لحظة تجليه لنفسه من وراء دون کیشوت، إدراك ملتبس بالسؤال ومضروب بالتفارق في آن قبول وإنكار معا، تكريس في مستوى أول وتجديف ملتاع ملتبسان أحدهما بالآخر:

«هل أحارب أنا أيضاً طواحين الهواء؟ نعم، العدل مستحيل، الحب مستحيل. فهل يمكن أن أقبل؟ هل يمكن أن أسلم؟» و..أما إدراك رامة لميخائيل، عبر دون كيشوت (وهو إدراك يقدمه لنا، طول الوقت، ميخائيل) فهو شديد الوضوح، قاسٍ وحانٍ معا، عارف بما يكاد يشفي على المعرفة الغنوصية لأنها (معرفة العشق)، وأرضى بما يكاد يشفى على السخرية، وهو إدراك أكثر تعقيداً لأنه أكبر مقدرة على التنبؤ، ولكن إذا كان هذا الإدراك يملك الإجابة ـ كما يلوح - فإنه موضوع دائماً أمام سؤال لا إجابة عليه. لأننا لا نعرف رامة أبداً ـ ولو لحظة واحدة - إلا من خلال ميخائيل، وكان السؤال، دائماً، هو الإجابة الوحيدة الممكنة.

إذا كان هذا صحيحاً، فإنه لن يكون أمراً يتعلق بتقنية ما، فقط، ذلك أن وعي ميخائيل لنفسه يبدو، دائماً، مشروطاً بالسؤال، أما وعيه برامة، على ما فيه من أسئلة لا نهاية لها، فهو موضوع، مقرر، ونهائي، وواحد عبر تجليات لا يكاد ينتهي تعددها، وهو وعي لا صلة له بالامتلاك، لأنه يعرف أنه مهما لج به الوجد ومهما شطت المجاهدة فإنه غير قادر على امتلاك، ورامة تؤكد له ذلك عندما تقول له: «نحن لسنا قديسين، كلانا». وإذا كان هو يدرك مدى عوزه؟ ويمضه إدراكه، فإن سياق القداسة كله، عنده، ليس واردا في وعيه بهذه المرأة المثبتة دائماً في كل لحظة كمرآة، المنفية دائماً في كل لحظة كمرأة، معا.

وعندما يقول دون كيشوت، السلف العظيم: «اسمها دولسينيا»... جمالها يفوق كل ما للبشر إذ فيها تتحقق كل خصائص الجمال المستحيلة... في الوقت الذي يعرف فيه تماماً أنها أرضية تماماً! ألا يصح، على نحو ما، أن رامة على الأقل فى وعي ميخائيل - تنتمى أيضا إلى هذه المرأة التي تفوق كل ما للبشر، بينما هي خشنة كالأرض، دمها ولحمها من دم الأرض ولحمها؟. إذا كان ميخائيل منشقاً على ذاته، طول الوقت، وهو يقول: «هي على العكس منك، تبحث عن التعدد من داخل وحدانيتها النهائية».

فلا وجود لدون كيشوت إلا بسانشو بانزا. فهل شططت كثيراً جداً عندما ذكرتني واحدية التقديس ـ التلبيس هذه بالحسين بن منصور. ليست ميتافيزيقا الحلاج هنا هي المناط، بل التباس مطلق النقائض في نور ساطع الملكة.

كل أميرة في دون كيشوت، وعند دون كيشوت، هي مطلقة وكاملة وتفوق كل ما للبشر، مارسيللا ولوسيندا وزورايدا وكلارا، وكأنما تجمعهن كلهن دوليستيا وكلهن في نهاية الأمر وحدها، لأنها الجامعة، هي الملتبسة المزدوجة

ومن غير أية جرأة على مقارنة من أي نوع، أميل إلى اليقين بأن دون كيشوت، لم تنف الجسم الأسطوري الذي قامت به، وعليه، بل تمثله وعندما دحضته نهائيا فلأنها في الوقت نفسه قد تبنته نهائيا. وفي ثنائية رامة وميخائيل فقد استحال كل جسم أساطير الخصب والجنس ليصبح كأنما هو من جسم رامة نفسها، وارتطم ميخائيل بهذا الجسم معاصرا له وغاص فيه الآن وعاش فيه، بتجلياته الكثيرة، كما يعيش واقعة وجوده من غير إحالة أي إحالة إلى زمن ما، أو هذا على الأقل ما يقوله (وما يقوله لي) تقريباً بالنص.

بل هو يعيش جسم الأسطورة هذا، ملتحماً بجسم حبيبته «الأسطوري»، باعتباره، بنصه: وواقعة حسية يومية صريحة مباشرة ليس فيها شاعرية ولا شبقية ولا دغدغة للأوهام ولا إيحاءات أخرى.

1985*

* كاتب وروائي مصري «1926 - 2015». في