قبل ما يقرب من العقد من الزمن كتبنا مقال «عندما يرفض المسؤول تقدم البلد». ذاع صيت المقال لسبب لا أعرفه تحديداً، لكن كما المقولة الشهيرة: أن التاريخ عبارة عن سلسلة متكررة من الأحداث والسيناريوهات المتشابهة تعيد نفسها لكن مع اختلاف الوقت والمكان والأشخاص!

يبدو أن القصص تعاد بطريقة أو بأخرى!

تغيرت المملكة وتغير كل ركن فيها بعد وصول الرؤية، تطورت المملكة في كل المجالات، وأصبح المسؤولون أكثر كفاءة وأصبح العمل الحكومي متناغما ومنسقا والكل يعمل تحت خطة عامة وأهداف متكاملة، ولم يعد المسؤولون في جزر معزولة وكل له رأيه وطريقته، ولم يعد هناك تضارب في الخطط! لا يوجد كمال مطلق لكن الوضع الحكومي أفضل بمراحل ما كان عليه!

لكن ماذا عن البقية؟

المشكلة تكمن إذا كان القائد يتوجه بهم إلى الأمام والعلو والرفعة وهؤلاء ما زال تفكيرهم بدائيا.

قبل سنتين قابلت أحد العلماء في أمريكا وكان قد بدأ شركته حديثا وكانت لديه فكرة عبقرية ستغير وجه التكنولوجيا الطبية بشكل دراماتيكي، فكرته هي ما يطلق عليها فعلا «التفكير خارج الصندوق»، فيها إبداع يشبه الخيال، هي مثل عندما كان الناس يستخدمون الطائرات الشراعية وجاءت الطائرة النفاثة هي مثل عندما كان الناس يستخدمون القطار البخاري وأتى القطار السريع، مثل الناس لما كانت تستخدم السفن الشراعية وأتت محركات السفن، هو قام بمثل هذه النقلة لكن في التكنولوجيا الطبية، نحن في هذه الصنعة منذ عقود ونعرف ما هو الشيء الفريد النادر عندما نراه، هناك آلاف الصفحات من البحوث الطبية تنشر يومياً ومئات الاختراعات الطبية والصحية سنويا لكن لا يجذبك ولا يلفت انتباهك إلا شيء خارج عن المألوف! وهو ذلك، ما كان يحتاج إلى سنوات وجهود تخطيط وأموال استطاع جعله بأسابيع وبجزء من التكلفة، شجعته كثيرا وقلت له إن تقنيتك ستغير وجه العالم الطبي، وستكون حديث العالم، وكانت وقتها مجرد نموذج أولي من شركة مبتدئة، وبعدها بفترة تقابلنا مع بعض رجال الأعمال من ربعنا، وكان الحديث عن الوطن كيف تغير مع الرؤية وأن البلد يركز على الإبداع والتكنولوجيا، وتحدثنا أن المملكة تفكر خارج الصندوق في مشاريعها، وكيف أن فكرة مثل «لاين» تمثل نقلة تاريخية عالمية وإبداعية في تصميم المدن وأفكار خلاقة خارج الصندوق، وسألني بعضهم عن بعض التكنولوجيا الجديدة خصوصا في المجال الصحي والطبي عالميا، وقتها تذكرت الرجل الذي قابلته صاحب الفكرة الثورية وأيضا تذكرت اثنين من التكنولوجيا المبدعة، وقلت لهم هذه هي ما أعتقده سيكون مساراً مهماً في المستقبل الطبي من عدة مسارات أخرى!

قلت بنفسي ربما بعض رجال الأعمال في البلد تغيروا مع الرؤية خصوصا أن رجل الأعمال عادة هو صاحب القرار ولديه المرونة ولا يرجع كثيرا للجان أو مسؤول أكبر كما في القطاع الحكومي!

ما صار كالعادة البداية حماسا وسواليف ووعودا ومواعيد وإبداء نيات وفي الأخير تطنيش، مع أنني لست صاحب سلعة أو وكيلاً للشركات أو مسوقاً لها لكن اعتقدت وقتها أن الوطن سيستفيد من إحضار هذه التقنيات المستقبلية وسيكون لها صيت جيدا، نسيت أو تناسيت الموضوع مع عدم اهتمام ربعنا!

ويمر الوقت وأقابل في إحدى المناسبات صاحب الشركة الأمريكية التي ذكرتها أعلاه، وقد أصبحت تقنيتهم حقيقة، فلما رآني قابلني بحرارة شديدة، وذكرني بكلامي سابقا أن تقنيتهم ستغير وجه التقنية الطبية، وعرفني على مديري أقسام الشركة، كان سعيد جدا أننا صدقنا بتقنيته وفكرته قبل أن تصبح واقعا! طبعا حاليا الشركات الطبية والصناديق تتصارع على الحصول على نصيب بشركته وزادت قيمة الشركة عشرات مضاعفة، وستزيد قيمتها إلى مئات المرات، أما الشركتان الأخريان التي ذكرتها وناقشناها مع ربعنا فواحدة تم الاستحواذ عليها من إحدى أكبر الشركات الطبية في العالم والأخرى أنجزت إنجازا غير مسبوق طبيا!

ربما هذه القصة تتكرر في مجالات أخرى غير طبية لكن الدرس واحد!

أكتب هذا المقال وأشعر بالأسى أن الحكومة هي حاليا شبه وحيدة تدفع البلد نحو الإبداع والتطور والتفكير خارج الصندوق وفيه يعشق الوقوف مكانه! وفيه ناس لو تقوله «خذ خير قال ما عندي ماعون!»

سمو ولي العهد يواصل الليل مع النهار من دون كلل ولا ملل من أجل رفعة وعلو شأن المملكة ومواطنيها، وشبه يومي تخرج علينا مشاريع وخطط جبارة ثورية إبداعية، حتى العالم يغبطنا عليها من كثرة الإبداع والابتكار والتفرد، وفي المقابل بعض ربعنا من رجال الأعمال ما زال تفكيره سطحيا يفكر في التراب وكيف يأخذ أرضا ينام عليها من أجل غلاء ثمنها وإذا فكر شوي زود سوى عليها عمارة أو مكاتب أو مول!

أين القيمة المضافة للبلد، أين الإبداع أين جلب التقنية ونقلها؟! بكل واقعية الحكومة هي من تغرد شبه وحيدة بينما كثير من رجال الأعمال تسمع سوالفهم – يا كبرها- وأغلبها عن الرؤية بينما أفعالهم تقليدية بعيدة كل البعد عن روح الرؤية!

لنكن صريحين، لولا الله ثم جهود الحكومة بقيادة عراب الرؤية لبقي حالنا على ما هو عليه منذ عقود، جزء ليس بالقليل من القطاع الخاص رجعي التفكير والفعل، وده يرجع بالزمن للوراء ويخلينا كما كان أجدادنا ونبقى على طير يالي (زاد البترول انتعشت الميزانية وحصل مناقصات بالظاهر والباطن! وقل البترول رجع للتقشف وحبس الأراضي!)

أشعر بخيبة أمل من عديد من القطاع الخاص يضع شعار الرؤية ويلتحف بها ولا يعيها ولا يطبقها! ويحب (الشو) وتجده في المناسبات والزيارات يكثر من مذكرات التفاهم والتصوير من أجل الظهور وبعد نهاية المناسبة لا تسمع أي شيء عملي ملموس!

بعضهم ربما يقول: غدا الصناديق الحكومية ستستحوذ على الشركات الصاعدة المبدعة، ربما، لكن تكون هذه الشركات تغيرت كليا وبعدما عرفت الصناديق الكبرى عنها وأصبحت قيمتها مضاعفة أضعافا عديدة! بينما الفرصة لك يا رجل الأعمال في البداية عندما كان كل شيء مقدورا عليه وبسعر بسيط!

للأسف لو نراجع حاليا لا نرى أي إبداع أو أفكار خلاقة فريدة في القطاع الخاص إلا ما ندر رغم دعم الرؤية غير المحدود!

ما أتوقع أن يتغير الحال في عديد من «القطاع الخاص» ويواكب الرؤية وتطلعات وآمال الحكومة والشعب إلا إذا تغيرت عقلية التفكير بالتراب!

الرؤية تريد نقلهم إلى القمر وهؤلاء تركيزهم على التراب!

صعب جدا على البعض أن تطلب منه أن ينظر إلى القمر والوصول إلى القمر وهو واقع في غرام التراب، وأعتقد أن البعض سيبقى هكذا إلى أن يدفن فيه!