تمثل الهجرة النبوية فرعًا محوريًا من شجرة السيرة النبوية التي ما زالت تضرب في الأرض، وتتسامق في السماء منذ بعثة النبي محمد عليه الصلاة والسلام.

والتفاؤل بالهجرة النبوية راسخ في ثقافة الشعوب الإسلامية منذ العهد الأموي، ويتوارثه الزعماء والفنانون إلى اليوم.

الأساطير الشعبية

ما زال السعوديون يسمون الطريق الأسفلتي الذي يربط بين مكة والمدينة اليوم «طريق الهجرة»، وكل شيء أو مكان أو نبات أو حيوان كانت له صلة بالهجرة تحول إلى أسطورة تتوارثها الأجيال دون نقد موضوعي أو تساؤل منطقي أو تمحيص علمي مثل العنكبوت الذي تقول المراجع إنه بنى بيته في فوهة الغار، إذ ما زال الوعي الجمعي يقدسه فلا يقتله ولا يهدم بيته؛ عرفانًا بمساعدته النبي وصاحبه بتضليله من تبعهما.

كذلك الحمامة التي بنت عشها فوق الغار، وهبّت في وجوه قصاص الأثر، وربما فقأت عين أحدهم، وذرقت على لحية آخر، فما زال الاعتقاد الشعبي سائدًا بأن النوع المسمى «حمام الحرم» هو من سلالتها.

أما الناقة التي هاجر عليها فلم يقف الناس عند تخليدها ببناء مسجد قباء والمسجد النبوي على مبركها، بل نسجوا حولها بعض الخرافات، حيث قالوا إنها كانت تجتاز الحرار بسرعة دون أن تؤلم النبي: إما بالقفزعاليًا، لخفتها وكأنها تطير، وإما بقذف الصخور بيديها، لقوتها الخارقة التي ظلت تحتفظ بها إلى أن توفي النبي، فانهارت وفقدت بصرها من شدة البكاء عليه. وتزعم الرواية أيضا أن الصحابة دفنوها حيث ماتت كما يدفن البشر. وإلى 1409 هـ، ظل مدفن الناقة مزارًا يتهافت عليه الناس!.

ملعبة المسعودي والثبيتي

في الساحة السعودية، أهم وثيقة تحتفي بالهجرة النبوية هي الملعبة الشهيرة بين عبدالله المسعودي ومطلق الثبيتي، وبدأها المسعودي مرحبًا بقوله:

نهاية يوم ذا الحجة بداية ليل من عاشور.. هلا يا مرحبا والمملكة بأحلى لياليها

وعلى الرغم من قصر ذلك الطاروق (القاف)، فإنه مليء بالإشارات التاريخية والثقافية والمعاني العميقة، ومنها:

1– تسمية شهر المحرم كله «عاشور»، وهي تسمية يظهر لنا أنها ترسخت في الثقافة الإسلامية منذ اعتمد عمر بن الخطاب التقويم الهجري؛ حيث إن المحرم هو عاشر الشهور بعد الهجرة التي كانت في ربيع الأول، وإن كان محرم أول السنة القمرية، بمعنى أنه لا علاقة لنجاة موسى وقومه من فرعون، ولا لمقتل الحسين بن علي بهذه التسمية إطلاقا!!.

2– إن الليل (غروب الشمس) هو بداية اليوم عند العرب والمسلمين، وليس النهار كما هو شائع في زمننا هذا!.

3– إن الشعب السعودي في الحجاز تحديدا كان يحتفل بيوم الهجرة علنًا، ويمارس الطقوس الشعبية السائدة في العالم الإسلامي، بما فيها من خرافات وشطحات ليست من الدين الحق!.

4- لا شك أن المحاورة تحمل كثيرًا من المعاني، وتتسع لكثير من التأويلات، ولكن المعنى الإجمالي العام - فيما يبدو - هو حوار شرس بين المملكة وخصومها من ذوي الأيديولوجيات الضالة والأهداف السياسية المغرضة من القوميين والشيوعيين والاشتراكيين والبعثيين والإمبرياليين، وما يسمى «الإخوان المسلمين»، والمتاجرين البراغماتيين بالدين والشعارات البراقة.

5- إن عبدالله المسعودي يمثل المنهج السعودي الرسمي المعلن بقوله في البيت الثاني:

أنا ما همني في الوقت لا مطلق ولا مستور.. مركّبها على قمة جبل وتهز رجليها، ويرمز بـ«مطلق» لخصوم المملكة الظاهرين علنًا، وبـ«مستور» للمندسين والمنافقين!.

أما الضمير في قوله «مركّبها» فيعود على الراية السعودية التي تحمل الشهادتين، والمعنى: إن الدولة السعودية قامت على أساس متين هو خدمة الدين الصحيح، ولن تعبأ بما يعلنه خصومها المطلقون الأحرار، ولا بما يدسه الجبناء المرجفون!!.

6– يؤكد مطلق الثبيتي أنه اقتنص المعنى، فيقول: أنا أشوف المدافع فالمحاجي والفرود تثور.. يدوم إلك البقا وانته جملها وانت راعيها.

ففي الشطر الأول يثنِّي على أن الشعب السعودي في الحجاز كان يحتفل بيوم الهجرة النبوية، ويرد التحية في الشطر الثاني مؤكدًا أنه قبل التحدي، ليمثل الطرف النقيض للمسعودي والمملكة كما يقضي قانون الملعبة الصارم. وفي قوله: «وانته جملها وأنت راعيها وعيد سافر وغمز ماكر» أن ممثل المملكة لن يجد من يؤيده، ولن يستمر طويلًا في القيام بدور الجمل والراعي، فالعالم كله ضد الموقف السعودي!!.

7- وفي البيت الثاني يزيد المعنى قوة:

تقوله وأنت محني في يديّه حنية الباكور.. وأنا اللي من قديم الوقت طابخها وشاويها

وفي هذا تذكير للمسعودي بنهاية الدولتين الأولى والثانية اللتين كانتا تحملان الراية السعودية نفسها.

8– يقول المسعودي في الجولة الثانية:

عينت الشايب اللي لقمته ما وصلت الحنجور.. فضيحة لن تفلها وان بلعها سمها فيها؟!!، وهو تصويرعبقري لحساسية الموقف السعودي. فعلى الرغم من أن الدولة قامت على تصحيح العقيدة ومحاربة البدع والخرافات المتجذرة في ثقافة الشعوب الإسلامية، فإنها مضطرة لدعوة المخالفين لها واستضافتهم معززين مكرمين متى أرادوا العمرة والحج!.

أعداء الخارج سيعتبرون ذلك حقًا واجبًا لهم، ولن يتورعوا عن ابتزاز الدولة، وتحقيق أقصى ما يستطيعون من مكاسب مادية وسياسية، بينما سيتَّهم المتشددون في الداخل الدولة بالضعف والنفاق والرضا بالدنية في الدين!.

9- بذلك ينتقل المسعودي من المعنى الإجمالي العام إلى المعنى الخاص، ويكاد يعلنه في البيت التالي: من أول يا ذهبنا كنت في صندوقنا مصرور.. وذالحينة تشالبك الحرامية بياديها!. هل يعني نعم الله الكثيرة ظاهرة وباطنة؟ أم يريد الذهب الأسود (النفط) لا غير؟!، وفي كلتا الحالين من يقصد بـ«الشايب اللي لقمته ما وصلت الحنجور»؟! الملك عبدالعزيز الذي ظل نحو عشرين عامًا يحاول إقناع الإنجليز بوجود النفط في الضفة الغربية للخليج كما وجد في ضفته الشرقية (إيران) دون جدوى؟ ثم دعا الأمريكان وأقنعهم بالمغامرة على حساب الدولة الحديثة التي لم يكتمل تأسيسها بعد؟، وما إن تحققت المعجزة، واكتشف النفط في الظهران حتى قامت الحرب العالمية الثانية؛ ليتوقف الإنتاج الذي لم يبدأ حتى نهاية الحرب، ومات الملك عبدالعزيز ودولته مثقلة بالديون، أم يكون الشايب هو الملك سعود الذي لم تمض على بداية حكمه ثلاث سنوات حتى وقع العدوان الثلاثي على مصر 1956، ليتخلى عن الحياد، ويعلن وقوفه مع مصر ماديًا ومعنويًا، وسرًا وعلانية، وبالسلاح والرجال؟!.

10- يأتي الحسم من محامي الخصوم مطلق الثبيتي في نقضه، قائلًا:

عينت الطرقي اللي شق قدره شعلة الدافور.. ليا جاته ضيوف الله يزري لا يعشيها؟!.

فإن صح فهمي، فالطرقي – ومن مرادفاته الضيف وعابر السبيل – وتصغيره «الطريقي»، وهو معالي المهندس «عبدالله ابن حمود الطريقي»، أول وزير للبترول والثروة المعدنية في المملكة. وبالتالي، فإن الشايب قد يكون الملك سعود، وقد يكون الملك فيصل ولي العهد ورئيس مجلس الوزراء آنذاك؟!.

وبالعودة إلى سيرة الوزير الطريقي (1919 - 1997)، نجد أنه تدرج في العمل بشركة أرامكو - الأمريكية بالكامل في ذلك الوقت – إلى أن أصبح هو وحافظ وهبة أول سعوديين يدخلان مجلس إدارة الشركة بضغط من القيادة السعودية، واشتهر بمواقفه المشرفة مع أبناء وطنه والعمال غير الأمريكان والأوروبيين، وهو صاحب العبارة الشهيرة «بترول العرب للعرب». كما كان هو صاحب فكرة إنشاء منظمة أوبك (1960) مع الوزير الفنزويلي «خوان بابلو ألفونسو بيريز». لهذا اتهم الطريقي بالاشتراكية والشيوعية، وهي الفزّاعة التي دأبت الرأسمالية في أمريكا وأوروبا على رفعها في وجه من يهدد أطماعها في الشرق والأمريكتين، بل في أوروبا والولايات المتحدة نفسها، كما يتهم الديمقراطيون اليوم!!.

اطلاع على التفاصيل

11- كان المسعودي والثبيتي على اطلاع وعلم بتفاصيل الأحداث عبر الإذاعة والصحف والمجالس والصالونات الثقافية، بل إن الثبيتي كان مبتعثًا للدراسة في لندن، ويتقن اللغة الإنجليزية، ما أتاح له الاطلاع على وسائل الإعلام الغربية والأمريكية. وفي قوله «شعلة الدافور» إشارة ذكية إلى أن الطريقي كان يعارض هدر الغاز بتركه يتبخر في الجو، فوضع خطة عملية، لتجميعه واستثماره فيما يعرف بـ«الغاز المسال»، ونال براءة اختراع بذلك.

وقد اختُلف في تحديد تاريخ تلك المبادعة (الملعبة)، والراجح عندي أنها جرت في أوائل الثمانينيات الهجرية / الستينيات الميلادية مع بداية البث التلفزيوني والإذاعي بالرياض في أوج الحرب الباردة بين المعسكر الاشتراكي الشيوعي والمعسكر الرأسمالي من جهة، وبين إسرائيل والعرب من جهة ثانية، وبين الأنظمة الملكية العربية والأنظمة الجمهورية من جهة ثالثة، وكانت السعودية في صميم كل تلك الصراعات، لأهميتها السياسية والاقتصادية والجغرافية.

12- في خضم هذه الأحداث، لم يتردد خصوم المملكة عن الاصطياد في الماء العكر، لإثارة البلبلة، فيقول الثبيتي ممثلهم في هذه الملعبة:

وأنا ماني بشايل لي عصاةٍ راسها مشقور.. لكن التاجر اللي جابها لازم يوديها.

في الشطر الأول: يرى الخصوم أن المملكة في سياستها الاقتصادية منقسمة (راسها مشقور) بين الاشتراكية والرأسمالية.

أما في الشطر الثاني فهو يرفع شعار توزيع الثروات على بقية الأقطار العربية وتأميمها طبقًا للنظام الاشتراكي، ومعاداة الرأسمالية بلا هوادة.

تفنيد أباطيل الخصوم

13- يواصل ممثل المملكة (عبدالله المسعودي) تفنيد أباطيل خصومه في الجولة الأخيرة، قائلًا:

ألا يا صاحبً ما يشرب إلا السكّر المعصور.. ديارً مابها الا الشوك لو يسيل واديها

في الشطر الأول يتهم خصمه بتعاطي المسكرات الشعبية مثل السوبيا والعرق والحشيش، وهي من التهم الشائعة التي كان يُقذف بها موظفو أرامكو في ذلك الوقت.

وفي الشطر الثاني يحاول إيقاظ صاحبه من الوهم والانخداع بالشعارات الزائفة التي تبشر بها الشيوعية والقومية والبعثية، ويشبه تلك البلدان بالأرض اليباب التي ليس فيها إلا الشوك، فلن يفيدها الماء حتى لو ملأ الوادي. ولعله يشير إلى المثل القائل «إنك لا تجني من الشوك العنب»!!.

14- أما في البيت التالي فيتهمهم صراحةً بالعمالة لبعض الأنظمة والخيانة الوطنية:

تصيح بها مع المغرب وتقهرها طلوع النور.. شداد فوق غاربها وحبل فوق أذانيها

يشير إلى المؤامرات والدسائس التي تجري تحت جنح الظلام، وتتوقف مع طلوع النور، وهي مسيَّرة بيد بعض الأنظمة الحاقدة على المملكة!!.

15- هنا يحدث لغط من الصفوف والجماهير، يضطر معه عبدالله المسعودي أن يتدخل، ويرجو من الصفوف الانضباط؛ ما يعني أن اللغط كان بقصد التشويش على مطلق الثبيتي، لأنه يمثل خصوم المملكة، تمامًا كما يحدث للراوية (الحكواتي) في المقاهي الشعبية حين يتوقف عند هزيمة البطل ووقوعه في الأسر، ويعد بالمواصلة في الليلة القادمة، فتنفجرالجماهير غضبًا وتمنعه من المغادرة، وربما لاحقته إلى داره وهددته بالضرب، حتى يكمل ويخرج البطل من الحبس، ليأخذ بثأره. أما إن أنهى الحكاية بموت البطل، فلن تتركه الجماهير حتى يغير النهاية!!.

16- يبدو أن الثبيتي رضخ لرغبة الجماهير في تغيير الطاروق (القاف)، ولكن بعد أن تهكَّم منهم ببيت في غاية السخرية:

أنا أشوف السمن سايل من القَبَّة ليا الزبزور.. تصلّح وجهها مير الكوايا في علابيها

وهي صورة بدوية لاذعة؛ حيث كانت البدويات يستخدمن السمن (الودك) في تنعيم شعورهن ووجوهن، بينما مؤخرة رؤوسهن وأعناقهن مليئة بآثار الكي الذي كان هو الطب الأول والأخير منذ ولادتهن!!، وفي ذلك إشارة واضحة إلى أن تهمة الرجعية والبداوة التي تلاحق السعوديين منذ قيام الدولة الأولى.

كيف ننقّي الموروث الشعبي؟!.

كان من البدهي أن تستثمر الصحوة هجرة النبي في بعث الثقافة الإسلامية بالشعوب التي كان من أشد أدبيات الصحوة وصفها بـ«الجاهلية المعاصرة»، ومن ذلك النشيد الشهير «الهجرة رحلة هادينا»، ومن السهولة تمييز النفس الإخواني المحتقن في المقطع الذي يقول:

بالروح سنحمي المختارا.. ونقاتل عنه الكفارا

عهدًا لله نبايعه.. جندًا لله وأنصارا

وظل هذا النشيد يُغنى في السعودية – على الرغم من تفسيق وتبديع الاحتفال بالهجرة رسميًا - في المدارس ورياض الأطفال والكشافة والجوالة، والمسرح المدرسي والجامعي. وكان المنشدون السعوديون يتسابقون إلى إصدار الكاسيتات التي تباع علنًا دون فسح من الإعلام!.

وكان يمكن الاكتفاء بالإشارة العابرة إلى البصمة السعودية التي تحرم الموسيقى والدفوف والتصفيق باليد، لكن من يستعيد ذلك النشيد بالنسخة السعودية لا بد أن يتوقف عند المقطع القائل:

وبسرِّ القوم الأشرار.. بنت الصديق توافيه!

والمقصودة بذلك - بتواتر الأخبار وإجماع المصادر- هي «أسماء بنت أبي بكر»، لكنها أصبحت في النسخة السعودية: «ابن» الصديق!.

وفي ذلك دليل دامغ على جرأة الصحوة السعودية على تزوير التراث والعبث به، فما وافق هوى روادها فهو الحق وما خالف أهواءهم فهو غير صحيح، حتى إن جاء في الصحاح أو قال به جمهور الفقهاء والمفسرين، بمن فيهم ابن باز وابن عثيمين!!.

وبمسح سريع لأقسام الرسائل الجامعية في مكتبات جامعة الإمام محمد بن سعود الإسلامية، وجامعة أم القرى بمكة المكرمة، والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، نجد أرتالًا من البحوث والدراسات التي تجرّح كثيرًا من الروايات الصحيحة، وتلوي أعناق النصوص، وتستبدل بها روايات ضعيفة أو شاذة، بل موضوعة أحياناً.

والأمثلة أكثر من أن تحصى، ما يجعلنا نقول باطمئنان شديد: إنه لم يبق في التراث الإسلامي شيء: «فكأنما كتبُ التراث خرافةٌ.. كُبرى، فلا عمرٌ ولا خطّابُ»، كما يقول نزار قباني!.

والسؤال الأجدر بالطرح هنا هو: كيف ننقي كتب التراث من عبث الصحوة؟!.

asf

توصيات لتنقية كتب التراث من عبث الصحوة

1- تكثيف الجهود الرامية إلى فحص مكتبات جامعات: الإمام محمد بن سعود الإسلامية وأم القرى والجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة، وإتلاف الغث الزائف منها بلا مواربة.

2- دعوة الباحثين المتخصصين إلى لتأليف والرد على العبث الصحوي، وإطلاق حريتهم بلا تحفظ.

3- بعث علم الجرح والتعديل المعطَّل منذ قرون، وتطبيقه بصرامة تحقق الأمانة العلمية.

4- نشر نتائج البحوث العلمية في كل وسائل الإعلام، المقروءة والمسموعة والمرئية، ومنصات السوشيال ميديا، لتصل الحقائق إلى أكبر عدد ممكن.

5- الشفافية المطلقة في ضمان حق التعبير لكل طرف.

* كاتب وناقد سعودي