نجح بعض الروايات التي كتبت مستشرفة ما سيحدث في المستقبل في انتزاع قيمتها الكبيرة كروايات مؤهلة للخلود؛ حيث ركزت على مفهوم الاستباق أو السرد الاستشرافي الذي يسبق زمن الرواية حسب ما يراه الدكتور رفيف رضا صيداوي، في مقالة له منشورة في دورية «أفق».

ويعتقد صيداوي أن للزمن في الرواية بنية خاصة ضمن بنائها العام، وأن هناك روايات كثيرة عالمية وعربية ارتكزت على الاستباق أو السرد الاستشرافي، أو استعارت زمناً مستقبلياً تتفاوت مُدد بعُده أو قربه عن الزمن الوقائعي أو زمن الكتابة.

وهو يستدل بما فعله الروائي البريطاني جورج أورويل الذي جعل زمن روايته «1984» بعيداً زمنياً نحو 35 عاماً عن زمن الكتابة (1949)، أو رواية «مدينة بوهاين» (2011)، للكاتب الإيرلندي كيفن باري التي تدور أحداثها في العام 2053 - 2054 الذي يبعد عن زمن الكتابة نحو 42 عاماً. روايات عربية

عربيا، يرى صيداوي أن هناك روايات عربية استشرافية، لم يلجأ كتابها إلى الاستباق أو السرد الاستشرافي كعنصر أساس في بناء خطابهم، مثل روايتيْ «طواحين بيروت» (1969) للروائي اللبناني توفيق يوسف عوّاد و«بيروت 75» (1974) للروائية السورية اللبنانية غادة السمان، و«ستة أيام» (1961) للروائي السوري حليم بركات، مقابل روايات أخرى استعار كُتّابها زمناً مستقبلياً كاملاً وسكنوا فيه على غرار روايَتَيْ «1984» و«مدينة بوهاين».

الروائي اللبناني توفيق يوسف عوّاد استشرف في روايته «طواحين بيروت» الحربَ اللبنانيّة التي اندلعت عام 1975؛ إذ ربطَ ربطاً فنيّاً بين العادات والتقاليد البالية الراسخة من مخلّفات الماضي من جهة، وبين البنية الاقتصادية-الاجتماعية الهشة التي تعتمل بالتناقضات بين الريف والمدينة، بين الدولة الحديثة والدولة الطائفية، بين الأغنياء والفقراء، بين الدولة المستقلة والاعتداءات الإسرائيلية المتكررة على جنوب لبنان، بين النظام الاقتصادي اللبناني الحر وثغرات هذا النظام، ووازى فنياً بين الحالة النفسية لبطلته «تميمة» وبين بيروت، حيث إنّ كلتيهما، أي تميمة وأرض الوطن، استُبيح كيانُهما وجَسدهما، ما أَنبأ بانفجار ما، يكاد يكون حتمياً، لا يزال قائماً إلى الآن.

تعرية وجه بيروت

يرى صيداوي أن الكلام نفسهُ يمكن سَوقه على رواية غادة السمّان «بيروت 75» التي عرَّت وجه بيروت الحقيقي، انطلاقاً من حيوات ركّاب خمسة ينتمون إلى الطبقات الكادحة، جمعتهم سيّارة أجرة استقلوها مُتجهين إلى بيروت لتحقيق أحلامهم بقدر ما جمعهم البؤس وتحجُّر التقاليد. فربط الخطاب الروائي بين زيف العادات والتقاليد وفساد الممارسة السياسية اللبنانية واستغلال أصحاب المال والجاه والسلطة غيرهم ممَّن يفتقرون إلى مثل هذه المزايا، لينتهي هذا الخطاب بوضْع اليد على اهتزاز العلاقات في المجتمع اللبناني، وتسوُّس بنيانه، متِّنبئاً بالحرب التي اندلعت بعد أشهر قليلة تلت زمن كتابة الرواية.

أمّا حليم بركات، فقد ارتقى فنياً بخطاب رواية «ستة أيام» (1961) إلى مستوى متقدم جداً من تحليل الواقع الفلسطيني، بعيداً عن الأسْطَرة الوطنية أو القومية. فمن قرية «دير البحر» الفلسطينية.

انطلق بركات متخيلاً أهل البلدة وهُم بانتظار تهديد العدوّ الإسرائيلي الذي منح السكان مهلة أسبوع للاستسلام والعيش بسلام أو «مسحهم مسحاً». فجاء تقطيع الرواية بحسب الأيام الستة، بدءاً من يوم الإثنين وصولاً إلى يوم السبت، تاريخ العدوان الصهيوني على البلدة، قبل انتهاء مهلة الأسبوع الفترضة لتنفيذ التهديد.

اختلالات العالم

ماذا عن جورج أورويل وروايته الصادرة منذ أكثر من 70 سنة من الآن؟. ماذا عن المُستقبل الأسود المظلم لبلاد يحكمها زعيم أوحد (الأخ الأكبر)، حيث أعضاء الحزب الحاكم الذين يشكلون نسبة 2 % من السكان فقط، يستأثرون بحرية غالبية الشعب ويصادرون مصيره، ويمارسون الرقابة على كل تفصيل من تفاصيل حياة أفراده، إلى حد التقاط كل خاطرة أو فكرة أو تخييل من أي نوع كان، ويعملون على تزييف وعي الناس إلى حد إقناعهم بشعار الحزب الحاكم وصوابيته؟ ماذا عن شعار الحزب القائم على ثلاث ثوابت: ثابتة أن «الحرية هي العبودية»/ وأن «الحرب هي السلام»/ وأن «الجهل هو القوة»، وعن فلسفة الحزب والعالم الذي يريدون خلقه، ليغدوَ «النقيض التام ليوتوبيا المدينة الفاضلة التي تصورها المصلحون الأقدمون (...) لقد زعمت الحضارات الغابرة أنّها قامت على الحب والعدالة أما حضارتنا فهي قائمة على الكراهية، ففي عالمنا لا مكان للعواطف غير الخوف والغضب والانتشاء بالنصر وإذلال الذات، وأي شيء خلاف ذلك سندمره تدميراً»؟

إلى أي حد يشبه واقع الرواية الذي استشرفه أورويل واقعنا الحالي القائم على التضليل والتزييف والكراهية؟ وماذا عن الوسيلة الأساسية لهذا القهر المتمثلة بالتكنولوجيا، والمُعبَّر عنها فنياً في رواية أورويل بتوزُّع شاشات العرض أو شاشات المُراقبة في مختلف أنحاء البلاد، على مدار الساعة، من دون تمييز بين الحيّز العام أو الخاص، مُطاولاً الشقق السكنية وأماكن العمل أو الأماكن العامة، فضلاً عن الميكروفونات المزروعة في الأمكنة كلها؟

فقدان الحضارة

أما كيفن باري فيَستشرف في «مدينة بوهاين» عالمنا الرّاهن ومستقبله بعد أكثر من عَقدَيْن، فيراه عالماً فاقداً كل ما يمت إلى الحضارة والمدنية بصلة. بدا عالَماً أقرب إلى البدائية الأولى، لكنه يختلف عنها في كونه عرف المدنية لكنه فقدها: فساد يلوث هواء المدينة ونهرها. ميادين صغيرة وعفنة وكريهة جداً. عائلات ومجموعات وعصابات متناحرة. جرائم بالجملة. شراء فتيات صغيرات. خمّارات ومواخير ومكاتب مُراهنات. شباب يدخّنون الحشيشة ويتكلمون على النساء ويتمرسون في استخدام الخناجر.. هكذا تتوالى الأجيال في بوهاين.

لعل الخيط الجامع لهذه الروايات الاستشرافية كلها، على تعدُّد أشكال استخدامها للزمن، قائم أساساً، وقَبل أي شيء آخر، على قراءة مُعمَّقة لزمانها وتخبطات هذا الزمان. فالمستقبل مرهون بالماضي والحاضر. وإذا ما اكتست هذه النصوص الروائية سمة الخلود، فذلك لأنها نجحت ببناء مجاز كلي يتعدى ثنائية الحقيقة والمجاز، مكتفية بخطابها الذاتي الكاشف عن عورات الماضي والحاضر من أجل بناء مجتمعات أفضل، الإنسان فيها هو الأساس والمآل والقيمة العليا.

مثل هذه الروايات الخالدة تُحذر، من دون الوقوع في فخ الابتذال الأيديولوجي أو الخروج عن معايير الشعرية الروائية، مما يمكن أن يواجهه المستقبل من تهديدات ومخاطر، سواء أكانت هذه المخاطر تخص مجتمعاً ما أم العالم بأسره أم الإنسانية جمعاء.