في وقت تستمر فيه اتهامات المؤلفين لدور النشر بأنها تتجنى عليهم في ما يستحقون من عائدات تتعلق بمؤلفاتهم، بيّن وكلاء أدبيون معتمدون لدى هيئة الأدب والنشر والترجمة التابعة لوزارة الثقافة لـ«الوطن» أن المؤلف المحلي لا يملك جهة قانونية تمثله، ولا معرفة قانونية بتفاصيل التعاقدات الرسمية، ولا الجهة التي يطالب عبرها بحقوقه إن استلزم الأمر، حيث يكتفي بالاطلاع على عقد مبدئي للطباعة والنشر، من دون حذر ولا تأنٍ ولا استشارة، ومن دون استيعاب كل بنود العقد قبل التوقيع بالموافقة عليه، وأنه يستعجل التوقيع في خطأ يقع فيه أغلب الكتّاب الذين يعودون لاحقاً للشكوى من سوء دار النشر التي ألزمتهم ببنود عقد مبرم يحقق مصلحتها.

واتفق مشتغلون بالأدب على أن «مدة العقد» و«حقوق الملكية الفكرية» و«حقوق الترجمة» هي أهم البنود التي لا بد للمؤلف من الاهتمام والنظر إليها بعناية لأنها أكثر البنود التي يمكن لدور النشر استغلالها، إضافة إلى النسبة التي تحددها دار النشر بنفسها في حال حصل المنتج على جوائز من أي نوع سواء كانت فكرية أو فنية.

وغالباً ما تربط دور النشر المؤلف بعقد مدته من 3 إلى 5 سنوات، وأحياناً أكثر بحيث لا يستطيع التصرف بإعادة طباعة كتابه إلا بعد انتهاء المدة، وهي تحدد لنفسها كم طبعة ستطبع من الكتاب، وأحياناً قد لا تنص على أنها تملك حق الطباعة والنشر باللغة العربية وحدها، بل تضغط على المؤلف وتنال جزءاً واسعاً أو ضيقاً من حقوق ترجمة كتابه إلى أي لغة أخرى.

وكانت هيئة الأدب والنشر والترجمة قد تلمست الإشكالية الكامنة في هذا الأمر، وعملت على إطلاق مبادرة «الوكيل الأدبي» التي ترمي إلى سد الفجوة بين الكتاب والمؤلفين والناشرين وغيرهم من الجهات المستفيدة من نشاطهم الأدبي، حيث يكون الوكيل الأدبي والوكالات الأدبية ممثلين للكتاب والمؤلفين، ويتخذون دور الوسيط بينهم وبين الجهات المستفيدة من نتاجهم الفكري مثل دور النشر، أو شركات الإنتاج السينمائي، أو التلفزيوني، أو الموسيقي، أو الإعلاني أو غيرها.

وحددت الهيئة دور هؤلاء الوكلاء في خدمة المؤلف، بعرض نتاجه على دور النشر، ومساعدته في اختيار دار النشر الأنسب، وتقديم النصح والمشورة له في ما يتعلق بحقوقه التعاقدية، ومصالحه المادية والمعنوية.

اختلاف العملة

يبين الوكيل الأدبي عبدالعزيز الجاسم أن دور النشر تسعى للحصول على حقوق طباعة ونشر الكتب التي تراها مناسبة لذائقة القراء، وكثير منها لم يعد يركز على النصوص ذات القيمة الأدبية والفكرية العالية، بل يميل إلى كتب مشاهير التواصل الاجتماعي، ويهتم كثيراً بجمال الغلاف واسم المؤلف وشهرته وقربه من وسائل التواصل، بغض النظر عن جودة محتوى الكتاب.

وأوضح أنه كي تحقق دار النشر مبتغاها من الربح، فإنها تسعى للحصول على عروض تصميم وطباعة رخيصة الثمن من خلال الطباعة بتقنية الديجيتال لا الأوفست، وتحاول فتح مسارات للطباعة في الخارج، حيث تستفيد من فارق سعر صرف العملة مما يقلل الكلفة عليها وتتوسع في هامش ربحها.

المفاضلة عند القدرة

ميّز الجاسم بين النشر عبر دار نشر والنشر بجهود المؤلف الشخصية، وقال «لكل نوع من الأمرين مزاياه وعيوبه، فالمؤلف القادر على الطباعة الذاتية سيتحمل عبء التوزيع، وهو عبء ثقيل، حيث إنه سيقوم مقام دار النشر في كل تفاصيل الطباعة والتوزيع والمشاركة، وهي أعباء تتحملها عنه دار النشر مقابل احتلالها موقع الوسيط الأكثر ربحاً وحصيلة من العناوين التي تبني أصولها الثابتة، وهي تتيح للمؤلف الوقت للتفرغ لأعماله القادمة من خلال سعيها لتوزيع نتاجه ومشاركتها بعمله في المحافل المحلية والدولية، كما تضمن وصول نتاجه لكبار الموزعين محلياً ودولياً».

غير مجدية

يجزم عضو مجلس إدارة نادي الأحساء الأدبي سابقاً، القاص عبدالجليل الحافظ، وهو قاص لديه عدة مجموعات قصصية مطبوعة أن طباعة الكتب في عالمنا العربي، وعلى الرغم من مضي أكثر من 200 عام عليها، فإنها ما زالت غير مجدية اقتصادياً بالنسبة للمؤلف، إلا قلة قليلة جداً، وقال «من ناحية المردود المالي لا يستفيد من طباعة الكتاب غير دور النشر والمطابع، فأغلب دور النشر تأخذ تكلفة الطباعة مع الأرباح من المؤلف وعلاوة على ذلك تشاركه في أرباح المبيعات».

وأضاف «تماطل بعض الدور المؤلفين في إعطائهم مستحقاتهم، وللأسف الشديد فإن كثيراً من المؤلفين لا يهتمون بحقوقهم المادية ويدعونها للدور لأسباب عدة، أبرزها قلة المردود المادي الذي يُعطى للمؤلف بحيث لا يستحق المطالبة به، وكذلك فإن وصول المنتج إلى شريحة أكبر من القراء يُقنع المؤلف بالتنازل عن حقه المادي، مما يجعل كل الأرباح تصب في صالح دار النشر التي تكون غالباً قد قبضت ثمن طباعة الكتاب مع هامش من الربح مقدماً، وبعضها يقتنع بهذا الهامش فلا يبذل جهداً كافياً لتسويق المنتج ويبقى حضورها ضعيفاً في المكتبات الكبرى ومتاجر بيع الكتب، بل وحتى المعارض».

ونصح «على المؤلف قبل أن يضع كتابه بين يدي دار النشر أن يبحث عن دور نشر ذات مصداقية، وأن يحدد هدفه من طباعة كتابه والشريحة المستهدفة منه، ليختار دار النشر المناسبة التي لها حضورها ولديها آلية تسويق جيدة، كما أنها تلتزم بعقود تحفظ حقوق الجميع، ولديها سمعتها الجيدة من خلال المؤلفين الذين نشروا عندها سابقاً، وإلا فإن عليه أن يطبع كتابه ويسوقه بنفسه وذلك أفضل من النشر عبر دار لا تهتم بكتابه».

منحى متصاعد

يرى الوكيل الأدبي الدكتور عبدالله البطيان أن سوق النشر تواجه تحديات اقتصادية لكنها مع ذلك تنحو منحى متصاعداً.

وكشف البطيان أن ثمة ممارسات عدة يلجأ إليها سماسرة صناعة الكتب من دور نشر ووسطاء من أبرزها:

أولاً: اللعب على حقوق المؤلف، انطلاقًا من الملكية الفكرية حتى حق النشر، وأغلب هذه الخفايا تظهر في استغلال جهل المؤلفين وصناع المحتوى بحقوقهم ورغبتهم بالحصول على نتائج من دون الاستعانة بخبير يقرأ العقود ويتابع الأعمال الأدبية ليتفرغ المبدع لإبداعه، على أن يسنده الوكيل الأدبي أو المحامي المتمكن في ساحة الإنتاج ودهاليز النشر.

ثانياً: تلجأ دور النشر، وقد يكون هذا إحدى أدوات نجاحها بشكل أو بآخر، إلى استخدام لغة الأرقام بعرض أسعار زهيدة لإنتاج العمل، ووجود إضمار في المصالح المشتركة، التي بدل أن يتشارك فيها المؤلف مع دار النشر، نرى أن دار النشر تنال نصيب الأسد من بوابة سمعة المؤلف وحقوقه، حيث يتنازل المؤلف عن تلك الحقوق أو بعضها لصالح دور النشر محلياً ودولياً من خلال حبكة عقد تشعر المؤلف بأنه وقع في عالم الشهرة والوجود الفخري، إلا أنه فخ يتيح للدار الاستيلاء على أكبر قدر من حق المؤلف.

وأكمل «غالباً ما يكتشف المؤلف أنه لا يتمتع بأي عائد مباشر، كما يجد أن أعماله لم تحظ بالمكانة التي وُعد بها وتصورها، ويجد نفسه أسيراً لعقد وقعه ومبالغ قدمها لدار النشر التي تستحوذ على العائد المالي بمجمله تقريباً».

وبيّن أن ثمة تدخلات عدة بين انتقال المنتج من مؤلفه إلى مستهلكه الأخير وهو القارئ، وهذه التدخلات أو المراحل تتمثل بالمراجعة والتدقيق، والتنسيق الداخلي والخارجي، وإصدار الترخيص وإذن الطباعة، والحصول على رقم معياري دولي (الردمك)، والطباعة، والنشر والتسويق. وأوضح أن هذه المراحل تتطلب خبرة ومعرفة غالباً ما تتولاها دار النشر وغالباً ما يفتقر إليها المؤلف.

حب الظهور

يشدد البطيان على أن بعض دور النشر قد تستغل كلتا الحالتين لدى المؤلفين، فهي إما تستغل حب المؤلف للظهور السريع ورغبته في الطبع بسرعة، أو قد تستغل أنه لا يحب هذا الظهور أو لا يكترث بالأمر.

وبين أنه في الحالة الأولى تستثمر دور النشر رغبة المؤلف وحبه للظهور السريع فتجحف بحقه وتستغل رغبته فتفرض عليه شروطاً مجحفة بحقه في عقد النشر والتوزيع، وهي شروط تتعلق بمدة العقد ونسب العائدات وحقوق المشاركة بالجوائز.

أما في الحالة الثانية فقد تتعامل معه على أنه غافل حيث يكتفي كثير من المؤلفين بإصدار نتاجه من دون أن يكترث بما له من حقوق مادية فيه. ونصح بأن يأخذ المؤلف موضوع الطباعة والنشر من دون تسرع، ويستعينَ بمن يأخذه إلى بر الأمان.

تحديات كثيرة

في مقابل كل الاتهامات التي تطال دور النشر، يوضح ناشرون أن سوق النشر يواجه كثيراً من التحديات التي تستلزم من دور النشر أن تحفظ حقوقها ويكافئ ما تقدمه للمؤلف من خدمات، مشيرين إلى أن أبرز تلك التحديات هي التحديات المالية التي تتمثل بارتفاع تكاليف الإنتاج، وارتفاع كلفة طباعة الكتب مع ارتفاع تكلفة الورق والحبر وعمليات الطباعة.

كما تتمثل تلك التحديات أيضاً في جانب التوزيع مع تكلفة متزايدة لشحن الكتب إلى المكتبات وبائعي التجزئة، وفي جانب التسويق المتمثل بتكلفة الإعلانات والعروض الترويجية.

وفي مقابل كل هذه الارتفاعات التي يمكن تجاهل تأثيرها هناك انخفاض ملحوظ في مبيعات الكتب، وعلى الأخص الورقية، حيث تزداد شعبية الكتب الإلكترونية، وتزداد معها جنباً إلى جنب قرصنة الكتب التي تتمثل بانتشار نسخ الكتب بشكل غير قانوني على الإنترنت.

كما تواجه دور النشر تحديات تكنولوجية، حيث بات على دور النشر أن تركز أيضاً على التسويق الرقمي بغية الوصول إلى جمهور أوسع.

ولا تقتصر التحديات على هذين الأمرين، بل تمتد أوسع لتشمل التحديات المتعلقة حيث يزداد عدد الكتب المنشورة، وهو ما يزيد صعوبة اكتشاف الكتب المميزة وسط كم هائل من الكتب المنشورة.

كما تتسع دائرة التحديات على مستوى المنافسة مع ازدياد عدد دور النشر، وصعوبة التميز بينها في ظل تقديم كثير منها لخدمات متماثلة، وكذلك مع سهولة وتوفر منصات النشر الذاتي التي جعلت بالإمكان نشر أي كتاب بشكل مستقل من دون الحاجة إلى دور نشر.

وأمام كل هذه الصعوبات بدأت بعض دور النشر تعقد ما يمكن تسميته باتفاقات النشر، حيث تتعاون عدة دور في عدة دول عربية بحيث تتبادل الخبرات، وتحقق وصولاً أكبر إلى جمهور أوسع، وأحياناً كلفة أقل، وإن كان ذلك قد أثر على مستوى الطباعة وجودتها.