قصة كهذه تعكس جوهر وأهمية المسح الصحي العالمي الذي تطلقه السعودية مجددًا في عام 2025، بالتعاون بين وزارة الصحة والهيئة العامة للإحصاء وهيئة الصحة العامة (وقاية) ومنظمة الصحة العالمية. هذا المسح ليس مجرد عملية رصد بيانات، بل مشروع وطني طموح يستهدف الوصول إلى عمق المجتمع السعودي لفهم الواقع الصحي بمختلف أبعاده، من أنماط الحياة اليومية إلى الأمراض المزمنة، ومن سلوكيات الصحة العامة إلى العوامل البيئية والاجتماعية المؤثرة في صحة الأفراد.
وتُبنى أهمية المسح الحالي أيضًا على ما قدمته التجربة السابقة من نتائج قيّمة. فقد كشفت نتائج المسح الصحي الوطني السعودي الأخير عن حقائق مقلقة، أبرزها أن أكثر من نصف البالغين في المملكة يعانون من زيادة في الوزن أو السمنة، وأن نسبة كبيرة من السكان لم يكونوا يمارسون أي نشاط بدني منتظم. كما رُصد انتشار متزايد لمرض السكري وارتفاع ضغط الدم، إضافة إلى ارتفاع معدلات التدخين بين الذكور. وقد أسهمت هذه النتائج في تعزيز التوجه نحو الوقاية والتدخل المبكر، كما دفعت وزارة الصحة إلى إطلاق برامج وطنية لمكافحة السمنة، وتعزيز أنماط الحياة الصحية، مثل حملات «صم بصحة» و «امشِ 30»، فضلًا عن التوسع في خدمات الرعاية الوقائية في المراكز الصحية.
تنفيذ المسح يأتي في لحظة حاسمة تتقاطع فيها أهداف التنمية الصحية مع رؤية السعودية 2030 الطموحة. فالصحة ليست فقط غاية فردية، بل جزء من بنية متكاملة تسعى من خلالها رؤية 2030 إلى تعزيز جودة الحياة، وتحقيق مجتمع أكثر عافية واستدامة. ولكي نبني نظامًا صحيًا متطورًا يستجيب لحاجات الناس الفعلية بعيدًا عن استخدام قوالب جاهزة مستوردة مبنية على بيانات لا تمت لنا بأي صلة، لا بد من بيانات دقيقة، شاملة، تمثّل الجميع في مجتمعنا، وتكشف ما يميزنا ويميز بيئتنا وثقافتنا. هذه هي المهمة التي يتولاها المسح الصحي، بهدوء وإصرار وعبر منهجية علمية رصينة بقيادة كفاءات ومؤسسات وطنية متخصصة.
ورغم أنه عمل بحثي في ظاهره، فإن جوهره إنساني بامتياز. فهو يتعامل مع الإنسان باعتباره محور الاهتمام، ويعترف بأن كل معلومة صحية يمكن أن تصنع فرقًا، وأن كل مشاركة مجتمعية قد تُحدث تحوّلاً في السياسات العامة. من خلال هذه الأداة، يمكن للمملكة أن ترسم خرائط دقيقة للاحتياجات الصحية، وتُعيد توزيع الموارد بعدالة، وتوجه برامج الوقاية والتثقيف حيث الحاجة الفعلية.
المسح الصحي ليس حدثًا عابرًا، بل ركيزة أساسية في البناء الصحي الحديث عبر مفهوم الصحة السكانية. بمشاركة أفراد المجتمع، وبقيادة واعية تستشرف المستقبل، تمضي المملكة في طريقها نحو نظام صحي أكثر كفاءة وإنصافًا، يحمل على عاتقه صحة الفرد، ويجعل من كل بيت شريكًا في رسم غدٍ أكثر عافية.