كنت في المرحلة المتوسطة، وكنت ذاهبًا للحج، عندما حضر «الوصولي الفقيه والعالم الصحوي» إلى مخيم حملة الحج لإلقاء كلمة على الحجاج، والإجابة عن أسئلتهم وفتاواهم. ذهلت عندما رأيت تصرفات هذا الذي يُوصف لدى دعاة الصحوة بأنه «من العلماء الربانيين»، يتصرف أو يقبل تصرفات لا يمكن أن يقبلها من ملأ فؤاده الدين والروحانيات التي تدعو إلى التواضع، والزهد، والتبسط، فضلًا عن أن تقبل تصرفات تغذي الكبر. أولى تصرفاته، كنت أسير بجواره لرؤية هذا الشخص الذي أشغل الناس صيته! فتفاجأت عندما قَبِلَ أن يُقَبِّل رأسه شخصٌ يكبره سنًا، وهذا يتنافى مع التواضع الذي من الطبيعي أن يكون عليه المسلم الصادق، فضلًا عن المسلم العالم، والداعية، والفقيه! الموقف الثاني، عندما انتهى الشيخ من إلقاء الكلمة، وهمَّ بالمغادرة، اقترب منه شاب ثلاثيني وقال له: يا شيخ، أستأذنك بأن آخذ المايك لإلقاء قصيدة من بضعة أبيات كتبتها فيك ولك. ذُهِلتُ حينما سمعت جوابه، فقد قال: «لا أستطيع أن أقف وأنت تلقي القصيدة، لأن الناس ستتحدث أني أقبل قصائد الثناء والإطراء، ولكن سأمشي وسأقف وكأني أسلم على بقية الحضور، وسأنصت للقصيدة ولن أغادر حتى أسمعها»! الموقفان صادمان لي، وأنا صبي في المرحلة المتوسطة، تم تغذيته بأن الدين وأهل الدين خلاف ذلك بتاتًا! موقف ثالث مع الشيخ ذاته حصل بعد سنوات قليلة، عندما حجز ثلث الخيام في الحملة بالكامل، لتكون مجلسًا له لاستقبال العامة، -كما يطلق عليهم- وخاصة الوافدين من دول العالم العربي والإسلامي، والذين لا تسنح لهم فرصة لقائه إلا في الحج. عندما دخلت المخيم، قال لي أحدهم: هل تعلم أن العالم فلان الفلاني موجود معنا في المخيم؟ لم أصدق ما سمعته أذناي، وذهبت حاثًا الخطى لأراه بعيني! فعلًا، وجدته، وحوله ثلة من الشباب الذين اتضح لي، من خلال خوفهم منه، ومن خلال معاملته لهم، أنهم موظفون وليسوا مجرد شباب ملتزمين يرغبون القرب من عالم من العلماء لنيل الروحانية، وتعلّم الزهد والتقوى! فاجأني عندما أتى أحد موظفيه يخبره بأنهم لم يستطيعوا أن يضعوا علامة بارزة للحجاج ليعرفوا مخيم الشيخ. غضب الشيخ، فحاول الشاب الذي كان يعمل أجيرًا وليس محتسبًا أن يهدئ من غضبه، فقال: يا شيخ، كل المخيمات مثل بعض باللون الأبيض، حتى مخيم المفتي ذاته! ذهلت من المنطق، ومن أسلوب نشأنا وتربينا عليه بأن المسلم لا ينبغي له حب الظهور، والبحث الحثيث عن الشهرة، والمكانة الاجتماعية؛ فهذه الأشياء تأتي لك من رب العالمين مع جهودك في الدعوة، فالدين ليس تجارة!
رد الشيخ: ضعوا بالونًا عظيمًا، وعلقوه في السماء، ومن يشاهده سيعرف أن هذا مخيمي، ومن يسألكم عن الموقع، قولوا له: الموقع الذي في سمائه بالون. خاف الشاب وقال: يا شيخ، الحج موسم حساس، والبالون قد يسبب لنا مشكلة. رد الشيخ فقال: ضعوهم (من يعترض) تحت الأمر الواقع، ولن يفعلوا شيئًا! خاف الشاب فقال: الموسم بدأ، فلن نستطيع أن نطلب بالونًا ويصل لنا إلا وقد انتهى الحج! تشنج الشيخ، وقال: ما الحل؟ لا بد للناس من أن تعرف المخيم، فالجميع يعرف مخيم المفتي! ثم التفت إلى تلاميذه الموظفين، فقال: ضعوا لي هذه الخيمة، وافتحوا بقية الخيام على بعضها البعض بحيث تكون كالمجلس الفسيح، وادعوا حجاج هذه الحملة بأن هذه الخيام للصلاة، والناس ستأتي من تلقاء نفسها! ثم عقب الشيخ، فقال: أنا لن أبقى أزور الحملات لإلقاء كلمات، فهذا العهد قد ولّى، والآن الناس هي من تأتي! كل هذا وأنا واقف بجواره وبين تلاميذه، أسمع وأشاهد بعيني! قالوا: يا شيخ، أين ننام نحن؟ فرد: أنتم إذا هجع الناس، أغلقوا الخيام واخلدوا للنوم، ولكن كونوا متأكدين أن تستيقظوا لصلاة الفجر كي نضمن توافد الناس! وهكذا فعلوا! هذه المواقف تتصادم بشكل قاطع مع تعظيم الله تعالى في القلوب، وإذا انتفى تقديس المولى، فإن القلب سيكون خاليًا، فلا يوجد خيار ثالث؛ إما تقديس الرحمن، أو أن يكون القلب شاغرًا للإلحاد.
لهذا نقول: علينا جميعًا أن نحمي الدين من الوصوليين والاستغلاليين والذين يتحكمون بمصائر الناس وأرواحهم، الذين يستخدمون الدين كمطية توصلهم من مكان إلى آخر!