في سفوح جازان وسهول عسير، حيث تفوح الأرض برائحة المطر والعطر والريحان، تنبت تجربة سعودية فريدة تسعى إلى زراعة العود والصندل داخل أراضي المملكة، فيما تدور في الوقت نفسه عجلة الصناعة والعلامات التجارية لتُصدّر العطر العربي من قلب المملكة إلى الأسواق العالمية.

وتسعى السعودية اليوم لتصبح مركزاً عالمياً لصناعة العطور الشرقية والخالية من الكحول.

سوق محلي شره


لا تعد السعودية مجرد سوق استهلاكي كبير للعطور اليوم، بل هي السوق الأكبر في منطقة الشرق الأوسط.

وتُشير البيانات الإحصائية إلى أن قيمة السوق الاستهلاكي للعطور في المملكة تُقدّر بنحو 1.7 مليار دولار (6.375 مليارات ريال سعودي) سنوياً.

ويُعد نصيب الفرد السعودي من العطور من الأعلى عالمياً، مدفوعاً بعادات ثقافية راسخة تجعل من العطر جزءًا من الهوية الشخصية والاجتماعية، خصوصاً في المناسبات، والضيافة، والممارسات الدينية.

وعلى الرغم من هذا الحجم الكبير، ما تزال الصناعة المحلية تغطي جزءاً محدوداً من الطلب، بقيمة إنتاج سنوية تُقدَّر بحوالي 500 مليون دولار (1.875 مليار ريال سعودي). وتبرز علامات سعودية ناشئة تسعى إلى تعزيز الحضور المحلي، والتوسع نحو الأسواق الخليجية والأوروبية، بدعم من برامج تمكين التصنيع الوطني.

العود سلاسل معقدة

«العود» ليس مجرد مكوّن عطري، بل هو جوهر العطر العربي. وتبدأ رحلته غالباً من غابات آسام الهندية أو سواحل إندونيسيا، حيث يُستخرج من أشجار نادرة بعد سنوات من النمو والتخمير الطبيعي، ليصل لاحقاً إلى معامل التقطير والمزج في السعودية.

إلا أن سلسلة التوريد هذه شديدة التعقيد والتكلفة، وتعتمد بالكامل تقريباً على الاستيراد، مما يضع الصناعة المحلية تحت ضغوط ارتفاع الأسعار، والتقلبات البيئية، والقيود على تصدير الأخشاب العطرية من الدول المنتجة، إضافة ربما إلى التقلبات السياسية في دول المنشأ.

زراعة العطر

في مواجهة هذا التحدي، أطلقت السعودية عدداً من المشاريع التجريبية لزراعة أشجار العود والصندل في مناطق جبلية مثل الريث والعارضة وفيفاء والحشر وجبال سلا ووادي لجب في منطقة جازان، وسراة عبيدة والنماص في منطقة عسير. حيث بدأ مشروع زراعة العود والصندل في منطقة جازان في أبريل عام 2019 وذلك بالشراكة مع معهد كيرلا للغابات بالهند لنقل الخبرات.

وتستفيد هذه المبادرات من المناخ الرطب والتربة الخصبة في تلك المناطق، في محاولة لإعادة إنتاج العود على الأراضي السعودية.

وعلى الرغم من أن أشجار العود تحتاج من 10 إلى 15 سنوات للنضج، إلا أن نتائج التجارب الأولية أظهرت إمكانية تأقلم الأشجار مع البيئة المحلية.

وتوقعت دراسات مسحية محلية أن تشكل هذه الخطوة نقطة تحول إستراتيجية في بناء صناعة عطرية متكاملة تبدأ من الزراعة، وتنتهي بمنتج وطني قابل للتصدير.

استثمار وتحديات

التحديات ما تزال قائمة، من نقص الخبرات الفنية إلى ضعف البنية التحتية للاستخلاص والتصنيع، لكن الإرادة الاستثمارية والاهتمام الحكومي يدفعان باتجاه تطوير هذا القطاع ليصبح جزءاً من الأمن الاقتصادي العطري للمملكة.

دعم رؤية 2030

ضمن برامج رؤية السعودية 2030، تُعد العطور جزءاً من الصناعات المستهدفة بالتوطين والنمو.

وتعمل مبادرات مثل «صنع في السعودية» على تمويل المشاريع الصغيرة، وتسهيل الترخيص للمصانع، وتطوير المدن الصناعية المتخصصة.

وقد بدأت شركات عالمية مثل LVMH وCoty إنشاء فروع في الرياض وجدة، بينما توفر فعاليات مثل موسم الرياض وجدة التاريخية والمهرجانات السياحية الصيفية والشتوية في المناطق منصات مثالية لعرض العطور المحلية أمام جمهور دولي، ما يُعزز فرص التصدير والتوسع.

من الاستهلاك إلى التصدير

رغم محدودية صادرات السعودية حالياً مقارنةً بفرنسا أو الإمارات، إلا أن المملكة تستهدف رفع صادراتها إلى نحو مليار دولار بحلول 2030، مع تركيز خاص على:

ـ العطور الإسلامية الخالية من الكحول.

ـ تصنيع منتجات العود والبخور الفاخرة.

ـ الاستفادة من منصات التجارة الإلكترونية التي توسّع نطاق الوصول للعملاء حول العالم.

ويتوقع أن تكون الأسواق الخليجية وجنوب آسيا والجاليات المسلمة في أوروبا من أبرز المستهدفين في المرحلة المقبلة.