جازان: حسين معشي

سجلت الأمم المتحدة في عام 2024 ما مقداره 61 صراعاً مسلحاً قائماً حول العالم، بزيادة قدرها 74 % مقارنة بمتوسط العقد الأول من الألفية.

وعلى الرغم من الجهود الدولية التي ضُخت فيها مليارات الدولارات منذ عقود، فإنّ الحروب لا تنطفئ بل تتجدد، وتزداد تعقيداً وطولاً.

ويكشف تقرير حديث لمعهد «تشاتام هاوس» أنّ السبب الرئيس وراء هذا الفشل هو استمرار السياسات الدولية في التركيز على الدولة باعتبارها وحدة الحل الوحيدة، بينما الواقع أن النزاعات الحديثة تقوم على شبكات اقتصادية وتحالفات عابرة للحدود تجعل من الحرب «اقتصاداً قائماً بذاته» يصعب تفكيكه.

نهج غربي قاصر

النهج الغربي في بناء السلام ينطلق من فرضية أنّ الحكومات هي المخرج الوحيد من النزاع. غير أنّ هذا المنظور أصبح قاصراً، لأن المشهد الدولي اليوم يتسم بما يُعرف بـ«التعددية في التحالفات»، حيث تتحرك القوى الإقليمية – مثل مصر وقطر والسعودية وتركيا والإمارات – بمرونة لافتة، فتتعاون مع الغرب في ملفات وتختلف معه في أخرى. هذه البراغماتية تخلق مشهداً شديد السيولة، يجعل التصنيفات التقليدية بين «عدو» و«صديق» أقل وضوحاً، ويقوّض أي خطة سلام تركز على الدولة وحدها وتتجاهل اللاعبين الآخرين على الأرض.

اقتصاديات الحرب

الصراعات الكبرى في السودان وليبيا والشرق الأوسط تكشف أنّ الحروب لم تعد محض مواجهات عسكرية، بل أصبحت منظومات اقتصادية معقدة.

في السودان، تحوّل الذهب إلى شريان مالي أساسي، حيث يسيطر الجيش وقوات الدعم السريع على المناجم.

وفي إيران، أدّت العقوبات إلى ظهور ما يُعرف بـ«الأسطول الشبح»، وهو شبكة ناقلات غير نظامية تبيع النفط في الأسواق الرمادية، مولدة أرباحاً ضخمة لمختلف الفاعلين.

في ليبيا، تحوّلت تجارة تهريب المهاجرين عبر الصحراء والبحر إلى مصدر تمويل للميليشيات، حتى أصبحت الهجرة غير النظامية اقتصاداً موازياً يعيد إنتاج الفوضى.

حلول عديمة الجدوى

هذه الأمثلة تؤكد أنّ الصراع اليوم يعيش على تجارة عابرة للحدود، يشارك فيها فاعلون محليون وإقليميون ودوليون، مما يجعل الحلول الدولية التقليدية عديمة الجدوى.

فخ العقوبات

يرى التقرير أن العقوبات الاقتصادية، إحدى أبرز أدوات الضغط الغربية، لا تُطفئ الحروب بل قد تزيدها اشتعالاً. فالعقوبات على النفط الإيراني خلقت سوقاً بديلة أكثر ربحية. وفي ليبيا، أدّت القيود الأوروبية على الهجرة إلى تمكين الميليشيات التي استثمرت في تجارة البشر. أما في السودان، فقد تحوّل الذهب إلى وسيلة تمويل بديلة مكّنت الأطراف المتصارعة من الاستمرار في الحرب رغم الضغوط.

السعودية نموذجاً

يبرز التقرير أنّ السعودية تقدّم مقاربة مغايرة، إذ تجمع بين الوساطة السياسية والتحالفات الاقتصادية المرنة. فهي تعمل على رعاية حوارات في أزمات مثل السودان واليمن، وفي الوقت نفسه تبني علاقات متوازنة مع قوى متباينة مثل الولايات المتحدة والصين وروسيا. هذا الدور الإيجابي يمنحها موقعاً محورياً في مشهد «التعددية في التحالفات»، ويجعلها أحد الفاعلين القادرين على مدّ الجسور بين أطراف متناقضة.

الحاجة إلى تغيير

يدعو التقرير إلى التخلي عن الرؤية الضيقة التي تركّز على الحكومات، واعتماد مقاربات عابرة للحدود تتعامل مع الشبكات الاقتصادية الموازية وتستثمر في البدائل التنموية. المطلوب هو تحفيز الاقتصاديات الشرعية عبر مشاريع تنموية مستدامة، مع بناء آليات مساءلة حقيقية تحدّ من نفوذ النخب والميليشيات المستفيدة من استمرار الحروب. عندها فقط يمكن أن يتحوّل السلام من شعار سياسي إلى واقع ملموس.