من أهم العوامل التي تميز البلدان الصناعية المتفوقة هي ثقافة السلامة العمالية، والتي بصرامتها وجدية تطبيقها تُشعرك

في بعض الأحيان بأنها مبالغة ومتطرفة. في الواقع، هذه الثقافة هي ركيزة في نمو وازدهار الصناعة وتحسين جودة حياة الإنسان. والتطرف فيها محمود ومطلوب لأنه مؤشر لاحترام الإنسان، ولأن أدنى تساهل لا يلبث أن يتطاير شره ويستفحل ويصعب بعد ذلك الإصلاح. ونحن في المملكة إذ نشهد تحولا متسارعا نحو توطين مزيد من الصناعات، وفي الوقت نفسه نواجه تحديا كبيرا في توظيف المواطنين والمواطنات، يصبح الاهتمام بثقافة السلامة العمالية أولوية ملحة.

تشمل السلامة العمالية جميع ما يتعلق بالسلامة والصحة العامة في مواقع العمل ووسائل النقل من وإلى مواقع العمل وأيضا السكن العمالي. ويندرج تحت ذلك الإجراءات الحمائية وبرامج النظافة والتعقيم ومعايير السلامة الخاصة بمواقع العمل أو المصانع ومساكن العمال.

في المملكة العربية السعودية تشكو منظومة السلامة من غياب الصرامة والاستمرارية في التطبيق. فينعكس هذا على مواقع العمل الإنشائي والمصانع التي كثيرا ما تكون بأقل مستويات السلامة والنظافة العامة وبوجود مخالفات لا يكاد يكترث أحد بها. ويمتد هذا إلى سكن الموظفين ووسائل النقل. وقد ظهر أثر هذا جليا في جائحة كورونا الحالية، لكن الأثر الأسوأ كان ملموسا لسنوات عديدة وهو أن تدهور العناية بالسلامة والنظافة العمالية أدى إلى تنفير السعوديين (و الأجانب ذوي المهارات العالية) من العمل في قطاعات الإنشاءات والصناعة. وبالتالي أصبح الغالب الأعم من موظفي هذه القطاعات هم الوافدون من البلدان الفقيرة «جدا»، والذين لا يتمتعون بمهارات عالية ولا ثقافة عمل ملائمة. لا حاجة للتوضيح أن جودة التنفيذ مرتبطة كليا بجودة الكادر البشري، ثم إن الوضع يتزايد سوءا في مواقع المشاريع البعيدة والتي تحتاج إلى سكن في الموقع (Site Camp)، حيث تقوم شركات المقاولات بتوفير الحد الأدنى من مستويات النظافة في السكن ودورات المياه وأماكن الطعام والمكاتب. والأمر لا يحتاج من أي منكم إلا إلى زيارة لأي من مواقع المشاريع خارج المدن والتجول في سكن العمال. حتى مشاريع قطاع النفط والتي كانت تتمتع بأنظمة أرامكو الأكثر تكاملا تدهورت كثيرا في السنوات الأخيرة تحت ضغط المنافسة والحاجة إلى تقليل التكاليف، بل وصل الأمر بكثير من شركات المقاولات إلى تقسيم أماكن السكن بحسب الجنسيات حتى يتحقق مزيد من الوفر، لأن العاملين من بعض الجنسيات (الأوروبية مثلا) لن يقبلوا العمل في مكان رديء جدا، بينما سيقبل ذلك القادمون من البلدان الفقيرة. غض الطرف عن مثل هذا الخلل أضراره كبيرة، بدءا من الخلل الأخلاقي في وقوع التمييز بين الناس على أساس جنسياتهم (مستوى فقر مجتمعاتهم)، وانتهاء بتحفيز الشركات للتوظيف من الأماكن الأشد فقرا والأبعد عن ثقافة السلامة، وبالتالي تنفير العامل السعودي والوافد ذي المهارات العالية، وأخيرا الأثر الكارثي وهو تدهور الأداء وضعف المخرجات، خاصة في قطاعات الإنشاءات.

القيمة الأهم للاهتمام بسلامة وصحة الموظفين هي قيمة أخلاقية قبل كل شيء، فلا يصح لا في ديننا ولا تقاليدنا أن نسمح بعيش وعمل العمال في أماكن لا نرضاها لأنفسنا ومواطنينا. فليعمل الجميع في أماكن آمنة ونظيفة تحافظ على سلامتهم وصحتهم. الناتج الطبيعي لرفع مستوى الحياة العمالية هو جذب مزيد من السعوديين إلى مهن قطاعات الإنشاءات والصناعة، وهي مهن احترافية ممتازة للنمو. والأثر الآخر المهم هو أن تصبح المملكة جاذبة للعمال المهرة من الوافدين والذين في غالبهم يعيشون في مستويات جيدة ويحظون بتدريب جيد ويتمتعون بأخلاقيات عمل أكثر تماسكا.

لتحسين ثقافة السلامة العمالية هناك ركنان أساسيان، هما الوعي والأنظمة. يتشكل الوعي بالسلامة العمالية عن طريق برامج التدريب والمتابعة والتحديثات المستمرة التي تصل إلى العامل وتلازمه بشكل متكرر ودائم. ويندرج تحت الوعي وجود البيانات المتكاملة والدقيقة والتي تساعد في التطوير المستمر للتشريعات. أما جانب الأنظمة فيتشكل عن طريق وجود التشريعات أولا ثم التطبيق ثانيا.

وجود الأنظمة لا يكفي، فالصرامة في التنفيذ هي الأساس في تحقيق بيئة السلامة المطلوبة. وقبل الصرامة يجب أن يكون الفحص المستمر عاما وشاملا، بحيث لا يكون لدى منشآت القطاع الخاص أي دافع لأخذ مخاطرات صغيرة بغرض التوفير (Short Cuts).

وحتى يتحقق التطبيق الصارم والواسع لا بد أن يُصعَّد موضوع السلامة على المستوى الوطني، ولا أستطيع التفكير بأي طريقة أفضل من وجود هيئة لها سلطات تنفيذية، بحيث تقوم بالتدقيق والتفتيش المكثف وإيقاف أعمال المشاريع التي تخالف أنظمة السلامة والنظافة العامة، ومعاقبة الشركات في حال وجود مخالفات جسيمة، لن نستطيع رفع مستوى السلامة العمالية إلا بوجود كيان يصيب مديري المشاريع والمصانع ورؤساء الشركات بالقلق الدائم ويجعلهم يفكرون بالسلامة العمالية بشكل يومي.

بالطبع سترتفع التكاليف قليلا، لكن سيكون العائد أضعافا مضاعفة عن طريق ضم عدد أكبر من السعوديين في مجالات الإنشاءات والصناعة، وهي مجالات مليئة بالمهن المجزية، وأيضا التخلص من الآثار الكارثية لتراكم العمالة الأجنبية ذات التكلفة المتدنية (وما أحداث كورونا عنا ببعيد). ومع رفع مستوى الكادر البشري وتحسين مستويات السلامة والصحة العامة ترتقي المخرجات في كل القطاعات الاقتصادية وترتفع تنافسية المنتج السعودي.