الهر ميشلر رجل قارب الستين ولكنه جم النشاط، تبدو عليه الطيبة ولكنك لا تدري لماذا تتردد دائمًا في تسليم حسن نيتك لطيبته. هو في راييلا مثال نموذجي لهذا الجيل من الشعب الألماني. الجيل الذي عاصر هتلر وعاش الحرب ونجا بطريقة أو بأخرى من الهلاك.

والشخصية الألمانية، وقد جاء أوان الحديث عنها، شخصية نادرة التكوين بلا شك. وإذا كان استنتاجي صحيحًا فلا بد أن كل شعب من الشعوب له شخصية وملامح نفسية تتشابه إلى حد بعيد مع النماذج والملامح النفسية التي ينقسم عليها الأفراد العاديون أنفسهم.

هناك أربعة نماذج بشرية معروفة ينقسم إليها الناس العقلاء الأصحاء.. هناك الشخصية اليشزودية الميالة للانطواء على الذات والازدواج. وهناك الشخصية البارانودية التي تسيطر عليها فكرة واحدة متسلطة تصبغ كل أقوالها وأفعالها، وهناك الشخصية المرحة الاكتئابية التي يحكم مزاجها موجات مرح واكتئاب.. وأخيرًا هناك الشخصية القهرية التي يتسلط عليها ويحكمها ويسيرها عدد من الهواتف القهرية النابغة من داخل صاحبها.

إذا كان القياس للشعوب صحيحًا، فالشخصية الألمانية هي من ذلك النوع الأخير.. النوع الـ Obsessive خاضع خضوعًا كاملًا لقهر الإحساس بحتمية النظام والانتظام والدقة والكمال.. حتمية العمل. لا كمصدر لأكل العيش أو التمتع بالمركز، إنما كطريقة وحيدة لإثبات الوجود. إن الألماني إذا لم يعمل يجن أو يموت.

هذه شخصية في الغالب لا يمكن أن تخضع للعاطفة أو نزواتها إنما تسيرها إرادة عقلية كاملة.

ومن العبث أن تحاول إثارة عواطف الألماني بوسائل عاطفية، إنه لا يملك إزاء شيء كهذا إلا الضحك سخرية. فحتى عواطفه لا يمكن أن تصل إليها إلا من خلال عقله.

إنه كالعقل الإلكتروني الذي لا يستجيب لأي مؤثر سوى «البروجرام» الذي يغذي به، هذا البروجرام يمضي ينفذه الألماني بالضبط كما أنزل وإلى الأبد، مادام لم يقع شيء أو يواجه بمشاكل تدعوه إلى إعادة التفكير حتى يصل إلى مفهوم جديد آخر يمضي ينفذه بكل ما يملك من ذرة قدرة حتى يتغير مفهومه بمفهوم آخر وهكذا.

هذا النوع بالذات يكاد يكون عكس نوعنا نحن المصريين. فنحن من النوع المرحي الاكتئابي، المتنقل دومًا من موجة مرح إلى موجة اكتئاب وهكذا. المسيطر على حياة نوعنا ليس هو الإرادة النابعة من مفهوم عقلي للحياة، إنما المسيطر في الغالب يكون العاطفة. حتى القضايا العقلية المحضة لا سبيل غلى إيصالها لعقل المصري إلا بأن «ينفعل» بأهميتها عاطفيًا.

عقله قادر على الفهم والاستيعاب والاقتناع هذا صحيح، ولكنه أبدًا لا يحول اقتناعه هذا إلى عمل إلا فقط حين يتحرك عاطفيا أو يرتبط بهذا المنطق أو الرأي ارتباطا.

مهما كانت سلامة الرأي أو معقوليته.

العمل بالنسبة لحياتنا في الغالب عبء تفرضه احتياجات الحياة، ننتهي منه بأسرع ما نقدر لنتفرغ لمهتمتنا الرئيسة: أن نسعد ونحيا بسعادة، أن نضحك ونمرح ونفرفش.. باختصار أن نعيش.

عند الألماني نوع الحياة غير مهم بالمرة، المهم هو نوع وكم العمل.. هنا اهتمامنا الأساسي منصب أولا على كيف نحيا الحياة، وفي الدرجة الثانية أو حتى الثالثة يأتي الاهتمام بالعمل. الزمن مثلا مهم جدًا في ألمانيا لأنه مقياس العقل للحياة.

الزمن عندنا غير مهم لأن لكل منا زمنه الخاص، بل حتى لمزاج كل منا زمنه الخاص. و«ساعة الحظ ما تتعوضش».. إذ مقياس الوقت ليس هو كميته ولكن المقياس الحقيقي للوقت هو نوعه، ومقياس الحياة هو مقدار ما تحتويه من ساعات متعة وليس ما احتوته من ساعات كدح وإنتاج. نحن في الحقيقة نكره العمل لأنه يمنعنا أن نحيا، وهم يموتون عملا لأن العمل لديهم في حد ذاته أحلى متع الحياة، ومن أسعد لحظات الحياة.