عشرة أعوام رهيبة شهد العالم خلالها حمام الدم السوري، بأكثر من مليون قتيل ومعوّق ومصاب، بلا أي مبالغة... وكارثة إنسانية مراوحة بين مجازر سجون النظام (صور «قيصر» ليست سوى عينة) ومآسي عائلات المفقودين، وبين ستة ملايين ونصف مليون مهجر ولاجئ وغارق في مياه المتوسط.. ودمار عمراني هائل نال من الحواضر التاريخية وتراثها مع ما رافقه من نهب منظم للآثار وتشويه لمعالم بعض منها عمّر أكثر من ألفي عام.. وتمزيق لنسيج اجتماعي عريق صهر التعددية في تعايش مشهود له بسلميته.. وتهديد لوحدة الشعب والأرض والدولة يتأكد أكثر فأكثر، بفعل تعدد القوى الخارجية التي بدا النظام نفسه، في نظر شعبه، واحدا منها.

أهم الدروس أن العالم تفرج وهلع وذهل وتألم، وعجز عن إنهاء سريع للمأساة، وأن الدول «المعنية» ربما بدأت معنية بإيجاد حلول، أو هكذا تظاهرت، لكنها انتهت إلى اتخاذ سورية برمتها، شعبا ودولة، نظاما ومعارضة، وقودا لموائد مصالحها. فلا «أصدقاء» سورية أو الشعب السوري برهنوا صدقية هذه الصداقة، ولا «حلفاء» النظام برهنوا أنهم مهتمون بسورية، إنْ هي إلا أرض مشاع انفتحت لهم فيها أبواب استغلال الموقع الإستراتيجي وفرض النفوذ ونهب أرزاق السوريين وتبديد روح البلد بإعادة هندسة ديموغرافيته.

ولعلهم «معذورون» (!) فالبلد سقط عمليا في أيديهم يوم انطلقت الصرخة الشعبية الأولى وواجهها النظام بالعنف الدموي، فسقط، وصار دوره مذاك أن يحافظ على بقائه بأي وسيلة، باستجلاب الاحتلالات لحمايته ومساعدته على هزم شعبه الموالي والمعارض، فـ«انتصر» ساقطا، وأسقط سورية معه. كان تعامله مع الأزمة سلسلة من الأخطاء «الوطنية» المميتة، وكان «الحليف» الإيراني إلى جانبه ليدفعه منذ اللحظة الأولى إلى مزيد من الخطأ، ما قاده إلى إحباط كل محاولات سياسية، عربية أولا ثم أممية مستمرة، وإلى تعطيل أي حل أو تسوية لا يعيدان حكمه وسيطرته إلى ما كانا عليه قبل عشرة أعوام، لكنه وحلفاءه يعرفون أن هذا لم يعد ممكنا ولا واقعيا. أصبح أسير مآرب حلفائه وأعدائه، ولم يعد قادرا على التأثير في هدف واحد يريده الشعب: إنقاذ سورية.

وقد يكون أعداء النظام «معذورين» أيضا في عجزهم، لأن السوريين الثائرين (أو المعارضة) لم يقدموا لهم «البديل» القادر والصالح. أراد «الأصدقاء» للثورة أن تبقى سلمية لكنهم رأوا بالعين المجردة أن العسكرة فرضتها الضرورة وانسداد الأفق سياسيا، مقدار ما استدرجها النظام نفسه ليواجهها بترسانته ويكسرها. شجعوا العسكريين على الانشقاق ولم يهتموا بتوحيدهم فأوكلوا أمرهم إلى دول وجهات مختلفة ما لبث تنافسها أن فرخ فصائل متنازعة توالي من يمولها. ثم ضغطوا لتوحيد صفوف المعارضة السياسية وتحالفها مع «الجيش الحر» وفصائل معينة، فدبت الخلافات داخلها وبين «رعاتها» وزاد التباعد بينها وبين الثورة في الداخل، ولم تتمكن المعارضة من بناء مؤسسة يعتد بها فبقيت أفرادا موزعين بين الدول المتقاربة أو المتنافرة.

لا شك أن هناك أفرادا معارضين يتمتعون بحس وطني ونزاهة عاليين، لكن كثيرين حملوا أجندات «إسلامية» واهتموا بركوب الثورة للاستيلاء على السلطة متى سنحت الظروف، أو بعد «إسقاط النظام» الذي غدا شعارا بلا برنامج عمل تراكمي لتحقيقه. وفي أي حال، عانت المعارضة من الأمراض التي زرعها النظام في كياناتها طوال أربعة عقود، فلم تقم تحالفات صلبة ولم تطور ممارساتها السياسية، إذ خاض معظم أحزابها تجاربه السابقة سرا وتحت ضغوط أمنية، لكن الأهم والأخطر أنها لم تتعلم سريعا من المحنة السورية القاسية، ورغم مرور عشرة أعوام لم يتبلور جسم معارض موحد الأهداف وواسع التمثيل يعي المصلحة الوطنية ويمكن التعويل عليه.

ولا تستكمل معالم العُشرية السورية الكارثية إلا بتسليط الضوء على الوضع الحالي لسورية، مع خمسة جيوش لخمس دول، مع تكرار التذكير بأن أيا منها لا يبالي بسورية ولا بالشعب السوري، بل بالقطعة التي انتزعها من الخريطة ويريد الاحتفاظ بها:

* روسيا وسعت رقعة سيطرة النظام عسكريا وتعتبرها حصتها، ولا تروم من أي «حل سياسي» سوى الإبقاء على نظام تنحصر خياراته في تلبية مطالبها و«شرعنة» مكاسبها. لكنها تبحث عن أموال للإعمار وعودة اللاجئين كتمويل لبقائها في سورية.

* الولايات المتحدة متمسكة بمنطقة الشمال الشرقي الغنية وقد تعترف بها «كيانا خاصا» للأكراد، فيكون بدوره حصتها السياسية الدائمة ومنصتها لمراقبة «كوريدور» إيران وميليشياتها عبر الحدود مع العراق، وتُضاف أيضا إليه قاعدة التَنْف جنوب شرقي سورية.

* أما الجنوب الغربي فتسعى إسرائيل، بالتنسيق مع روسيا، إلى جعله منطقة عازلة خالية من الوجود الإيراني، لكن الإيرانيين وأتباعهم متخالطون مع قوات النظام. وبالتنسيق نفسه توجه إسرائيل ضربات جوية وصاروخية للمواقع الإيرانية في مختلف الأنحاء.

* لإيران وجود في كل مناطق النظام جنوبا وشرقا ووسطا، وعدا قواعدها العسكرية وميليشياتها المحلية والمستوردة تركز منذ 2016 على توسيع نشاطها المدني سواء لنشر التشيع أو لربط العديد من السوريين بأنشطتها التعليمية والاقتصادية.

* تركيا باتت مستأثرة بالشمال الغربي ولا تبدو مكتفية برقعة نفوذها الحالي وتحاول توسيعها أو تدعيمها سواء بالتوافق أو بصراع المصالح مع روسيا، كما أنها توسع عملها المدني تمهيدا لإقامة طويلة.

هذه الاحتلالات لا تبحث عن حلول فمن يحرر سورية منها؟ بالتأكيد ليس هذا النظام، أو على الأقل ليس بصيغته الحالية، فهو من استدعى بعضها واستدرج بعضا آخر، فقط من أجل بقائه... في البداية كانت تلك الصرخة «الشعب السوري ما بينذل»، وفي العامين الأخيرين زحف الفقر والجوع والعوز إلى كل المناطق، ولم يعد النظام أو المعارضة مبعث أي آمال للشعب الذي يجد نفسه متروكا، بلا دولة. أصبحت سورية عبئا على محتليها. روسيا لا تزال تتخبط بين المخارج العسكرية والسياسية، والنظام يساهم في عُقم «حلولها»، وكلاهما يبحث عن تمويل عربي لكن العقوبات الأمريكية والأوروبية بالمرصاد، في انتظار تحريك اللجنة الدستورية، المجلس العسكري، الانتقال السياسي، تحريك أي شيء. غير أن كل هذه المسارات باتت مرتبطة بإرادة الاحتلالات، وليس بإرادة النظام أو الشعب السوري.

ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»