عالج الفقهاء مفهوم العلية أو مبدأ السببية في الأفعال والسلوكيات الإنسانية، معالجة تكاد تكون جديدة وفريدة من نوعها، والهدف من ذلك إيجاد منهج تتوافق نتائجه مع خبرتنا في دنيا الواقع، للوصول إلى أحكام كلية مرجوع إليها كلما اقتضت الضرورة إلى ذلك. فقد كانت العلة أو مبدأ السببية محورا يدور حوله القياس الفقهي، والقياس كما نعلم مصدر مهم من مصادر استنباط الأحكام الشرعية في علم أصول الفقه.

يقول القاضي الباقلاني متحدثا عن مفهوم العلة: «معنى كون العلة مؤثرة في الحكم أن يغلب على ظن المجتهد أن الحكم حاصل عند ثبوتها لأجلها دون سواه» فالعلة تمثل كما أسلفنا حجر الأساس في القياس الأصولي، وتعطيه طابعه الذي يميزه عن القياس الأرسطي الذي لا يستقرئ العلل في الأفعال الإنسانية، ولا يهتم بقراءتها في عالم الحواس وعالم التجربة الإنسانية، فخلو القياس الأرسطي من مبدأ السببية (العلية) أعطى القياس عند الفقهاء ميزات كثيرة لعل أهمها أن الفقهاء بحثوا عن العلل في الأفعال الإنسانية بما تدركه الحواس وتحيط به التجربة.

بناء على ذلك، وكي يكون القياس متوازنا بين عالم الأفكار وعالم التجربة، فإن العلة يجب أن تكون وصفا ظاهرا منضبطا، أي تكون العلة محسوسة تدرك بإحدى الحواس الظاهرة. فالوصف الخفي الذي لا تدركه الحواس لا يمكن الوقوف عليه ولا سبيل إلى معرفته ولا يجوز التعليل عليه، فالقياس الفقهي منتج فكري يقوم على التجربة وقياس العلة، والحكم الشرعي حاصل بتأثير العلة وعند ثبوتها، فالعلة علامة على ثبوت الحكم.

استنباط الحكم الشرعي عملية استنتاجية، أي استنتاج ناتج من مقدمات موضوعة، وتطبيق حكم من أصل إلى فرع، فالنتائج في القياس الفقهي لا يعرفها المجتهد مقدما، ومن هنا نجد أن المجتهد يحدد علة الأصل ثم يبحث عنها في الفرع، فإذا وجدت نقل الحكم إلى الفرع، فعند تطابق العلة بين الأصل والفرع يصبح الحكم واضحا ومعروفا. ولكن كيف يتعرف المجتهد على العلة ويطابقها بين الأصل والفرع؟ يجب أن ندرك أولا أن مسألة التعرف على العلة ليست عملية مباشرة أو اعتباطية، فالتعرف على العلة يتطلب أن تكون العلة نفسها مطردة ومتتابعة أي كلما وجدت العلة وجد الحكم معها.

والبحث عن اطراد العلل وتتابعها لاستنتاج الأحكام يتطلب وجود أداة بحثية هامة وهي الاستقراء، فالعلل تكتشف حقيقة بالاستقراء. إن القياس الفقهي يقوم على البحث عن العلل ومقاربة العلة في الأصل والفرع، والعلل واطرادها نتعرف عليها من خلال الاستقراء. يعرف الفقيه أبو حامد الغزالي الاستقراء بأنه: «عبارة عن تصفح أمور جزئية ليحكم بحكمها على أمر يشمل تلك الجزئيات» فالاستقراء يهدف إلى الكشف عن اطراد الظواهر لإيجاد قانون عام ينظم شتاتها وتبعثرها، وعند الفقهاء تتبع الجزئيات للوصول للكليات.

لذلك يتميز المنطق عند الفقهاء عن المنطق عند أرسطو، أن الفقهاء يعتمدون على المنهج الاستقرائي القائم على إحصاء الحوادث ثم النظر في هذه الحوادث واستخلاص قانون كلي يرجع إليه. وإذا أخذنا مسألة تحريم الخمر كمثال، نجد أن العلة تدور حول قضية الإسكار، وهذه مسألة تدرك بإحدى الحواس حيث تدرك بالحس في الأصل ويدرك أيضا وجودها بالحس في الفرع، ومن خلال استقراء علة الإسكار في الخمر والنبيذ وأي مشروبات أخرى نستطيع أن نشملها ضمن دائرة واحدة وحكم شرعي موحد.

نظرية المعرفة عند الفقهاء تعتمد بشكل كبير على التجربة والخبرة المباشرة، ورصد الأحداث وتحليلها وتصورها عبر خبرتهم والأدلة المجموعة بحواسهم من خلال مقدمات أولية مصدرها الأول هو النص القرآني الذي كان محور الاهتمام الأول عند الفقهاء، فاستقراء آياته وأدلته كانت المصدر الأهم لاستنتاج المقاصد الشرعية في أفعالنا وسلوكنا في الحياة والواقع.