تنشط الدبلوماسية الإقليمية لمواكبة المتغيرات الأمريكية تجاه الشرق الأوسط والخليج، كذلك لتصحيح أوضاع بلغت ذروة التعقيد بسبب التحولات التي شهدها العالم العربي خلال العقد الماضي، ولا يزال يعيش ارتداداتها. ثمة اقتناع عربي بأن سياسات واشنطن لم تكن، حتى أيام دونالد ترامب، مهتمة بالمصلحة العربية في تصحيح الخلل الحاصل جراء تغولات القوى الإقليمية (إسرائيل وإيران وتركيا، إضافة إلى إثيوبيا أخيرا). بل كانت، وتتأكد الآن مع إدارة جو بايدن، توزع الأدوار على هذه القوى، وتدفع العرب إلى التكيف مع واقع جديد لا يمكن أن يستقيم أو يتحسن إلا بمقدار ما يستطيع العرب إيجاد تكافؤات وتفاهمات مع جيرانهم الإقليميين. ففي هذا الإطار تُفهم بدايات الحوار الهادف والمتقدم بين مصر وتركيا، والمحادثات الاستكشافية بين السعودية وإيران. وعلى عاتق هاتين الدولتين العربيتين يقع عبء «خفض التوتر» والتأسيس لعلاقات إقليمية تراعي السيادة والمصالح.

لم يكن الرئيس العراقي ليؤكد شخصيا استضافة بغداد «أكثر من جولة محادثات» بين السعودية وإيران لو لم يكن متيقنا من أن الدولتين لا تمانعان من إفصاحه عن لقاءات مسؤولين منهما. ولعل برهم صالح أراد الدفع بهذه المحادثات قدما، لأن إخراجها من التكتم يلقي على الطرفين مسؤولية إنجاحها وبلوغ نتائجها المتوخاة. ومن جانب آخر يريد العراق تأكيد تغيير يحصل في داخله ويسمح له، أخيرا، بممارسة دور الوساطة الذي طمح إليه، ويتطلع إلى الاستثمار فيه لئلا يبقى ساحات صراعات إقليمية ودولية.

وإذ قال أيضا، في الحوار الذي نظمته مؤسسة «بيروت انستيتيوت» إن العراق يريد «دمج إيران في الإطار الإقليمي لكنه حريص على سيادته»، فإنه بتوضيحه أن بغداد وواشنطن «لا ترغبان في وجود قوات أمريكية بشكل دائم في العراق» وضع سقفا للإشكال الذي توظفه طهران إقليميا، وأعاده إلى حجمه الواقعي لافتا إلى أن القضاء على الإرهاب يستوجب «تعاونا دوليا» وأن ميليشيات «الحشد الشعبي» يجب أن «تخضع بكاملها لسلطة الدولة العراقية». وهكذا فإن الرئيس برهم برهن، كما يفعل رئيس الحكومة مصطفى الكاظمي، أن العراق أصبح عمليا مختبر المرحلة الانتقالية في المنطقة.

بعد يومين جاء تأكيد سعودي أول لمحادثات بغداد من السفير رائد قرملي، مدير إدارة تخطيط السياسات في الخارجية، مع توضيح لأمرين: الهدف هو «خفض التوتر في المنطقة»، وضرورة «أن ترى السعودية أفعالا (إيرانية) يمكن التحقق منها»، وبالتالي فلا «استنتاجات محددة» حتى الآن، كما قال. لكن هذا لا يمنع استنتاجين أوليين، أولهما أن المحادثات لا تزال في مرحلة استكشافية، والآخر أن الكرة في ملعب طهران، كما كانت دائما على أي حال. قبل ذلك، كان حوار متلفز أتاح لولي العهد الأمير محمد بن سلمان إعلان النيات السعودية («إيران دولة جارة ونطمح لعلاقة طيبة ومميزة معها»، «لا نريدها أن تكون في وضع صعب بل مزدهرة وتنمو»)، كذلك تحديد «الإشكاليات» («تصرفات سلبية تقوم بها إيران، سواء في برنامجها النووي أو دعمها ميليشيات خارجة عن القانون»).

أعاد موقف الأمير محمد التذكير بكل ما سبق أن أطلقته بيانات القمم الخليجية والعربية والإسلامية من دعوات إلى إيران كي تجنح إلى السلم وتراعي حسن الجوار وتلتزم القوانين الدولي باحترام سيادة الدول وعدم التدخل في شؤونها الداخلية. ولا شك أن الإشارة إلى الميليشيات الخارجة عن القانون توصف ذلك التدخل، مثلما أن الإشارة إلى البرنامج النووي تعزا إلى التهديد الذي تمثله إيران للسلم الإقليمي والدولي. وفي ضوء هذه المبادئ يمكن استشراف أي تفاهم إقليمي قابل للعيش، فالعرب لم يغزوا بلدانا عربية بميليشيات مذهبية، ولا يقدمون مصالحهم على أساس «تقاسم النفوذ» في هذه البلدان.

بالتزامن بدأ حوار معلن بين مصر وتركيا بعد ما بلغتا العام الماضي حد المواجهة العسكرية في ليبيا، وبعد ثمانية أعوام من شبه قطيعة دبلوماسية بسبب تضامن أنقرة مع جماعة «الإخوان المسلمين» ورفضها العملية السياسية التي أطاحت الرئيس الإخواني الراحل محمد مرسي عام 2013. جاءت المبادرة لـ«إصلاح العلاقات» من الجانب التركي فاستجيبت بلقاء بين مديري الاستخبارات ثم بمشاورات دبلوماسية قد تتلوها إعادة السفيرين ولقاء بين وزيري الخارجية. لم تشكل قضية احتضان أنقرة معارضين مصريين عائقا أمام توجه الدولتين إلى تغليب المصالح على الخلافات، فسرعان ما ضبط الأتراك القنوات الفضائية والمنصات الإعلامية التي وظفها «الاخوان» ضد النظام المصري، فيما أعطيت توجيهات إلى الإعلاميين المصريين بعدم انتقاد تركيا. وتفهمت القاهرة معارضة أنقرة تسليم أي معارض مطلوب من القضاء المصري.

كانت تلك مقدمات قبل النظر بعمق إلى التفاصيل، إذ لا يبدو «التطبيع» بين القاهرة وأنقرة مسألة شائكة، رغم التعقيدات التي طرأت خلال فترة القطيعة. وقد سبقتها محاولات تركية دؤوبة للتقارب مع السعودية، وبدرجة ما مع الإمارات، إذ حرص الرئيس رجب طيب أردوغان على الاتصال دوريا بالملك سلمان بن عبدالعزيز، بل ذهبت أنقرة إلى حد القبول رسميا بالمسار القضائي الذي اتبعته الرياض حيال جريمة قتل الصحفي السعودي جمال خاشقجي في القنصلية السعودية في إسطنبول، بعد ما كان هذا الملف أدى إلى تدهور غير مسبوق للعلاقات بين البلدين.

يفترض أن تطبق المبادئ ذاتها في المسارين التركي والإيراني، كذلك في المسار الإسرائيلي، وأن يكون هناك توافق عليها وتنسيق على المستوى العربي. لا شك أن هناك إشكاليات صعبة في العلاقات الثنائية، لكن حلها ممكن ليس مستحيلا، بل إن إيران وتركيا مستعدتان لتنازلات في هذا المجال كي تحصلا على اتفاقات يمكن أن تسهل التفاهم على قواعد التعايش في الدول التي أصبحت «دول تماس» تعاني من تدخل إيراني - تركي كسوريا والعراق، أو تدخل إيراني كاليمن ولبنان، أو تدخل تركي في ليبيا، فضلا عن حاجة أنقرة إلى اتفاق مع القاهرة لتحصل على شرعية التنقيب عن النفط والغاز في مياه شرق المتوسط. إذا كان الهدف النهائي هو «تطبيع» العلاقات مع إيران وتركيا، ولكي يكون سليما ونموذجيا، فإنه يفترض مثلا أن يؤدي التطبيع مع إسرائيل إلى ممارسات غير تلك التي تشهدها القدس في هذه الأيام.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»