هل يجب أن نهتمّ بأفغانستان والانسحاب الأمريكي منه؟ هل من انعكاس لهذا الحدث على المنطقة العربية أو تأثير فيها؟ للتذكير فقط: كان الاجتياح السوفياتي لأفغانستان مطلع 1980 محرّكا أساسيا لتبنّي الولايات المتحدة تعبئة إسلاميين عربا وتجنيدهم لدعم «المجاهدين» الأفغان في كفاحهم من أجل تحرير بلادهم ووقف المدّ الشيوعي. وبعد الانسحاب السوفياتي عام 1989 زرع الأمريكيون، بتخلّيهم عن أولئك «المجاهدين»، وعدم اهتمامهم بإيجاد تنسيق وخطّة لإعادة «الأفغان العرب» إلى مواطنهم، دوافع وأسبابا لاختمار ظاهرة الإرهاب عابر الحدود وانتشارها. وبعد سلسلة عمليات استهدفت سفارات ومصالح أمريكية أواخر الثمانينات وخلال التسعينات، ما لبث تنظيم «القاعدة» أن أوفد تسعة عشر مهووسا من رجاله لتنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001 داخل الولايات المتحدة، واضعا الخليج والشرق الأوسط تحت «اللعنة» الأمريكية، ولا تزال المنطقتان تعيشان تداعيات ذلك الحدث الذي أدّى إلى غزو أفغانستان واحتلالها بذريعة مبرّرة هي أن نظام حركة «طالبان» احتضن «القاعدة» واستحق أن يُسقَط بالقوة، ثم إلى غزو العراق واحتلاله بذرائع كثيرة تبين أنها كلها بلا أساس، أما «فضيلة» تخليص العراقيين من نظامهم السابق فصارت لاحقا تسليما للعراق إلى إيران.

بهذه الخلفية يمكن قراءة الانسحاب الأمريكي من أفغانستان، مع الأخذ في الاعتبار أن عناصر المشهد تغيرت. حرب استمرت عشرين عاما وكلفت أمريكا نحو تريليوني دولار من دون أن تتوصل إلى تغيير الواقع السياسي، أو حتى العسكري. طوال العقد الماضي تعددت محاولات إطلاق حوار أمريكي - طالباني في الدوحة، وعندما بدأ فعلاً في 2018 ساد انطباعان: الأول مفاده أن أمريكا أقرت بفشلها وبأن بقاءها في رقعة محدودة من الجغرافية الأفغانية غير مجدية، لكنها أملت بأن تتمكن بالحوار والاتفاق مع «طالبان» من الحفاظ على مكسبها الأهم الذي تحرص حاليا على إبرازه، وهو أن أفغانستان لن تعود «ملاذا للإرهابيين الدوليين» ولن تشكل خطرا عليها أو على أوروبا. والانطباع الآخر أنه لن يطول الوقت حتى تعاود «طالبان» السيطرة على معظم البلاد. ولم ينتفِ هذا الانطباع مع تقدم المفاوضات التي لم يُسجل فيها أي تنازل من «طالبان»، باستثناء تعهدها منع توسع تنظيم «داعش» وعدم احتضان «القاعدة» مجدداً، ثم إنها مع بدء الانسحابات الأمريكية والأطلسية راحت تؤكد تصميمها على «استعادة» المناطق تلو الأخرى.

وضعت واشنطن باكرا ورقة انسحابها على الطاولة وحددت الهدف من المفاوضات بوقف شامل لإطلاق النار وإعادة الاستقرار بتسوية سياسية بين الأطراف الأفغانية. تمسكت «طالبان» بمطلب الانسحاب الأمريكي من دون شروط ولم توافق على وقفٍ للنار، ووعلى الرغم من مشاركتها في لقاءات مع الحكومة الأفغانية إلا أنها رفضت التفاوض على اقتراحات سياسية لمرحلة ما بعد الانسحاب، كالمشاركة في حكومة انتقالية أو الانتخابات المبكرة، ولم تعر اهتماما لثلاثمئة ألف عسكري يضمهم الجيش والأمن الحكوميان ولم يكونوا موجودين يوم طُردت قيادتها من كابول. هذا أحد المتغيرات، ولا شك أن «طالبان» لن تتمكن من تكرار مشهد دخول دباباتها للسيطرة على العاصمة، ولن تتمكن أيضا، كما في المرحلة السابقة في 1996، من مد سيطرتها إلى مقاطعات الشمالية. أصبحت المعادلة الآن أن الطرفين، الدولة/ الحكومة و«طالبان»، سيتقاتلان بضراوة قبل أن يتوصلا إلى اتفاق سياسي يحترم مصالح وحقوق جميع القوميات والإثنيات التي أصبح لكل منها جيش أو ميليشيا.

طوال عشرين عاما لم يستطع الحكم في كابول إقامة علاقات دافئة وتعاونية مع باكستان، بل حافظت الأخيرة على روابطها القوية مع «طالبان»، وعلى الرغم من الضغوط الأمريكية واصلت دعمها للحركة باعتبارها أداة النفوذ الباكستاني في البلد الجار. وإذ يعد ذلك من «الثوابت» فإنه تأكد وتنامى أخيرا، وتتهيأ إسلام أباد بنشاط لما بعد الانسحاب الأمريكي متشددةً في رفض مطالب واشنطن لنشر قوات ومقاتلات لها في باكستان. هناك مناخ سياسي جديد يتبلور في المنطقة، وتتداخل فيه قوى إقليمية عدة:

روسيا المطلة شمالاً على أفغانستان عبر نفوذها في طاجيكستان وأوزبكستان وتركمانستان، حفزها الفشل الأمريكي على تجاوز العداء لـ«طالبان» وتعزيز الاتصالات معها في الأعوام الماضية.

الصين التي ترتبط بشريط حدودي صغير مع أفغانستان شرقا أقامت علاقة مع حكومة كابول للأغراض التجارية والاستخبارية، لكنها انفتحت أيضا على «طالبان» تحوطا للمستقبل وتقربا أكثر من باكستان.

أما في الغرب فراكمت إيران المكاسب، إذ تعاونت أولا مع الأمريكيين وأحرزت مشاركة في المؤتمرات الدولية حول أفغانستان. وفيما قدمت ملاذا لقادة «القاعدة» ومقاتليها لتستخدمهم ضد الأمريكيين في العراق، تناست عداءها مع «طالبان» لتفتح لها متنفسا، واستغلت اللاجئين الأفغان، خصوصا الشيعة منهم، لتصنيع ميليشيات ولائية سواء داخل أفغانستان أو في سورية. وبموازاة ذلك تعاونت طهران مع حكومة كابول في إنشاء مشاريع عدة.

بعيدا عن الحدود المباشرة، وجدت الهند مصلحة في الاتصال مع «طالبان»، وفي حسابها أن الحركة العائدة إلى حكم أفغانستان قد ترغب في دعم الجماعات الإسلامية «المتمرّدة» في إقليم كشمير. أما تركيا فتوطدت علاقتها مع «طالبان» من خلال تقاربها الوثيق مع قطر، الدولة الوحيدة التي توجد فيها ممثلية «طالبانية» بموافقة أمريكية. ولتركيا مساهمة مهمة في القوات الأطلسية التي رابطت في أفغانستان، وهي تسعى حاليا إلى توافق الأطراف على بقاء قواتها لتأمين مطار كابول وإدارته.

أمران شبه مسلَّم بهما. أولهما أن الحرب الأمريكية الفاشلة ستلد حروبا عدة في أفغانستان. والآخر أن باكستان وإيران والصين هي التي ستملأ الفراغ الأمريكي، علما بأن واشنطن تضع انسحابها في سياق مواجهتها للنفوذ الصيني. بل تُدرج تخفيف وجودها وربما انسحابها من الخليج والشرق الأوسط في السياق نفسه متطلعة إلى توافقٍ ما مع إيران، التي استبقت هذا الاحتمال بـ «اتفاق استراتيجي» مع الصين، وقد تُتبعه باتفاق مماثل مع روسيا. تبقى الفوضى والحرب الأهلية السيناريو الأقوى المتوقع لأفغانستان، بما يتضمنه من موجات هجرة ولجوء لم تنقطع بل ازدادت مع تأكد الانسحاب الأمريكي. أما الأخطر فسيكون بلا شك اتساع خيارات إيران للاستثمار في المجموعات الإرهابية وتوظيفها، خصوصا إذا احترمت «طالبان» التزامها الوحيد للولايات المتحدة.

*ينشر بالتزامن مع موقع «النهار العربي»