للعام التالي، يلقي فيروس كورونا بظلاله على أيام الحج، الأيام المباركة، التي ظلت عبر مئات السنين، تصوغ وجدان المكيين، وتغزل ابتهاجهم بالزمان والمكان، والسماء تنفتح لهم، ليطلوا على العالم عبر وجوه البشر القادمين من «كل فج عميق» حاملين كل تنوعاتهم واختلافاتهم، التي تذوب في بطحاء مكة. فتغدو البيوت في مكة تتحدث بكل لغات الدنيا، مشكلة مجتمعًا فريدًا، وثريًا بما يصب في الوادي المقدس من أفكار وعادات وثقافات، تتنوع لتتلاقى في رحابة امتزاج الثقافات وانصهارها وتداخلها في عقد من الجمال والبهاء.

هذه البيوت التي ربما مسها قدر من شحوب في موسمين متتاليين «ربما شاءت آمالها أن تستجيب لنعم الحياة لكنها أفقدتها لونها فأصبحت عابسة تترقب فرجًا»، في القادم من أيام بحول الله، يعوضها ما أجلته ظروف كورونا من لقاء الأحباب.

مكة التاريخ، مكة البهاء والقداسة، مكة التي ظلت على مدى الدهور تعلي الطمأنينة والمباهج في فضاءاتها، «مكة التي كلما اشتد حرها تقف بثبات على واديها غير ذي زرع تحصد سنينها العجاف بقلب مطمئن وخاشع.. وبتلاوات ملائكية تربت عليها لتتيقن أنها أعجوبة هذا المدى». تسرد علينا من الذاكرة ما لسكان مكة على وجه الخصوص، والمدينة المنورة ذكريات مع الحج، منذ تلك الأيام التي طواها الزمان في صفحاته، زمن الإضاءة بالكيروسين، حيث ذكريات الحج تكمن في التفاصيل، تفاصيل الخيام - مثلا - التي رواها المطوف فيصل محمد نوح الرئيس السابق لمؤسسة حجاج الدول العربية قائلا «أتذكر البروتوكول المحكم الذي كان المطوف يتعامل من خلاله مع خيامه (المفرد منها والمزدوج والثلاثية) والصواوين، وهي خيام كبيرة لها أكثر من ستة عشر عمودًا، وكانت أشهر الخيام مصرية الصنع ثم جاءت الباكستانية إضافة إلى (التيازير) وهي الساتر الذي يحيط بالخيمة والحمامات القماشية، إضافة إلى (الكرار) وهو باقي معدات ومستلزمات تشييد الخيام في عرفات ومنى». وحين يسترسل أحد من عاشوا تحولات ومتغيرات الحج يشير إلى «(الحنابل) وهو نوع من البسط أقل مستوى من السجاد من ناحية الجودة وأكثر تحملاً، و(الأوتاد) خشبية أو حديدية وهي ما تثبت بها حبال الخيام في الأرض والحبال، و(الدقماق) وهو مطرقة خشبية ضخمة، إضافة إلى القدور والتباسي (الصواني) والبراميل وخزانات المياه (والزفات) - مفرد زفة - وهي عبارة عن وعاءين صغيرين نسبيًا متصلين بقضيب خشبي مثبتين به من الطرفين بسلسلة حديدية أو بحبل يحملها العامل على كتفيه، وتستخدم لجلب الماء للحجاج في المشاعر المقدسة، ثم الحطب و(الأتاريك، والفوانيس) وهي مصابيح كبيرة الحجم للإنارة بالكيروسين وليس بالطاقة الكهربائية، والبيارق (الأعلام) فكان لكل مطوف علم مكتوب عليه اسمه يستخدم لإرشاد وتوجيه الحجاج في المشاعر...».

وحشة افتقاد أصوات الحجيج التي افتقدها أهالي مكة، -طبعا للاحترازات الصحية التي اتخذتها قيادتنا الرشيدة، وحفاظا على سلامة الحجاج- أثارت في نفوس المكيين مئات الصور من ذكريات أجمل أيامهم التي شكلت وعيهم، ورؤاهم وإيقاع حياتهم.

هذا الصحافي عمر جستينية، يقدح ذاكرته مرددا: «هذه الأيام ذكرتني بالخارجة والمبيت التي كنا نجتمع فيها أيام الحج ونترك بقية البيت للحجاج، وتظل هذه الحال من منتصف شوال حتى 20 ذي الحجة، لما يبدأ بعض الحجاج في مغادرة مكة، لنعود نرتب البيت حسب الغرف الفارغة، كنا نشارك الحجاج الأكل ويشاركونا في كل شيء، بسيطة كانت الأمور وتنتهي بود مختلف نحظى معه في الموسم الذي بعده بهدايا للجميع كلٍ باسمه من حجاج العام السابق».

ويلفتنا جستينية لشكل من أشكال تكوين الوعي والتواصل لدى المكيين (إن تجار مكة المكرمة يعلمون لغة البيع بأكثر من عشر لغات كنت أتابعها صغيرا في دكان عمي ووالدي في المدعى وكنت أظن أنهم يتقنون اللغات، واكتشفت لاحقًا أنها لغة بيع وتواصل فقط لا غير، وربما ما تزال مستمرة في مكة المكرمة والمدينة المنورة إلى اليوم). فيما يتذكر الشريف بندر الجودي صفحة أخرى من صفحات الحج الثرية (كنا نستأجر اللواري خمس طن والتي يكون صندوقها أحيانا طبقتين نشحنها بالأغنام، حيث إن أهلنا كانوا يبيعون ويشترون في المواشي وكثيرمن الوانيتات واللواري تؤجر (تعريفة) للحج بالعوائل، وأغلب تلك الشاحنات كانت بنظام المعاون، وهو مساعد للسائق لاسيما متابعته للسيارة في الطلعة -ومكة كلها طلوع وانحدار- يحمل حجرًا يضعه في حالة الوقوف تحت الكفرات الخلفية ليأمن السائق عدم رجوعها للخلف وارتطامها بمن خلفها من السيارات، وأيضًا يأتي إلى المشاعر ممن يتسببون لطلب المعيشة وليشهدوا منافع لهم، كل أولئك يعودون بدراهم معدودة ولكن قد نالهم من التعب والعناء والمشقة ما الله به عليم حتى نعرف معرفة يقين أن الله قد سخر كل أولئك لخدمة الحجاج).

ثم مباهج، ثم مرويات، ثم تاريخ اجتماعي مهيب، لأثر وتأثيرالحج في حياة المكيين، يحتاج صفحات هائلة، لتدوينه وتوثيقه، وتقديمه لأجيال غائصة في السوشال ميديا، ربما لا تدرك بجلاء دعوة سيدنا إبراهيم التي انطلقت من مكة «ربنا إني أسكنت من ذريتي بواد غير زرع عند بيتك المحرم ربنا ليقيموا الصلاة فاجعل أفئدة من الناس تهوي إليهم...».