أقدمت وزارة التعليم، من خلال إقرارها تدريس مادة «التفكير الناقد»، على خطوة شجاعة ومهمة على طريق تحديث التعليم، بنقله من آلية التلقين والحفظ إلى آلية تفكيك المعلومة وتحليلها، والتفكير في العلاقات الداخلية التي تنظمها، ثم إبداء الرأي فيها من منظور نسبي بحت.

لا أحد يجادل في أن تعليمنا، أو غالبيته، يعتمد على آلية قديمة عفا عليها الزمن، بعد أن أهال التعليم الحديث التراب عليها، ألا وهي تلقين المعلم أو الأستاذ، وحفظ الطالب المعلومة المتلقاة وفق آلية رأسية، ثم تفريغها في ورقة الإجابة يوم الامتحان، ليكون ذلك آخر عهد الطالب بها.

هذا المأزق التنموي المريع يؤكد أن تعليمنا يحتاج إلى إصلاح شامل وجريء، يتمثل في إحلال وتكريس ودعم منهجية جديدة للتعليم، من منهجية تعتمد اعتمادا شبه كلي على تلقين المعلومة وحفظها إلى منهجية تعتمد على تعليم مهارات التفكير في المعلومة وتحليلها وتفسيرها، حيث إن التعليم المعاصر، الذي قفز بالدول المتقدمة إلى ذروة سنام العلم والتكنولوجيا، يعتمد على منهج يحض على التفكير في المعلومة بدلا من حفظها، وليس من الضروري في هذه المنهجية أن يحفظ الطالب المعلومة، خاصة في عصرنا الحاضر الذي يستطيع فيه الطالب أن يستعرض المعلومة من لوح إلكتروني صغير يضعه في جيبه. وبعد استحضار المعلومة تبدأ عملية التفكير فيها مثل التفكير في العلاقة الداخلية التي تنظم مكوناتها، وهنا يحضر دور المعلم والمنهج الحديثين.

للحق، أنا لم أتصفح الكتاب المقرر لـ«التفكير الناقد»، إلا أني خضتُ، ولمّا أزل، في بحور هذا التفكير، مفاهيمه ومضامينه وفلسفته وفلاسفته، مما يجعلني قادرا، ولو بالحد الأدنى، على الحديث عنه على نحو عام بالموازاة مع خطوة وزارة التعليم.

ثمة ملحوظة على عنوان المادة، إذ يُفصح عما يمكن أن نصفه بأنه ذلك التفكير الذي يريد أن يَنقُدَ ولا يُنقَد، فهو «تفكير ناقد»، هكذا باسم الفاعل (ناقد). والحق أن مسارات الفلسفات والعلوم التي نظّرتْ للفكر النقدي، منذ «كانط» على الأقل، نظرت، ولمّا تزل، مفهوم النقد على أنه نقد مزدوج، ناقد ومنقود. بل إن «كانط» دشن ما يعرف بـ«نقد العقل نفسه»، بمعنى أن عليه أن ينقد آلياته ومناهجه وطرق اشتغاله، ليتبين إن كان صالحا لنقد الآخرين، أفكارا وعلوما، وجماعات وأفرادا، أم لا. ومن ثم، فالنقد عملية مستمرة، تجدد نفسها باستمرار، فهل محتوى المادة يأخذ بهذا الاعتبار؟، وهل المادة تدشن ما يعرف بعملية الـ«Feed Back»، أي التغذية الراجعة أو المرتدة، وفق اتجاه أفقي يجمع بين أناس يتناقشون بحرية، ومن منظور ألا أحد لديه العلم اليقين؟.

إن مما يؤسف له أن تعليمنا لم يبرح بعد آلية التلقين، التي لا تُخرِّج إلا حفظة يُلقون ما سمعوه، ويتذكرون ما قرأوه. ومما يؤسف له أكثر أن آلية التلقين والحفظ لم تقتصر على المواد النظرية فحسب، بل شملت حتى المواد العلمية والطبيعية. إننا لا نعدم أن نجد بعض طلاب العلوم الطبيعية، مثلا، يعمدون إلى حفظ القوانين الرياضية والمعادلات العلمية، ليُطبقوها على ما يعرض عليهم من مسائل رياضية وعلمية في ورقة الامتحان، حتى إن بعضهم لو تغيرت عليه أرقام المسائل أو المعادلات التي تدرب على حلها، لضل طريقه وأخفق، لأنه مجرد حافظ!.

جرب عزيزي القارئ أن تقول لابنك، خاصة في المراحل الإعدادية، رأيا أو حكما يخالف ما درسه في المقرر، أو ما قاله له أستاذ المدرسة، فستجده ينظر إليك باندهاش وإنكار، قائلا: «لا يا أبي هذا خطأ.. لقد قال لنا المدرس كذا أو أن كتابا مقررا يقول كذا وكذا»، لأنه أخذ كلام المعلم أو ما في المقرر على أنه يقين مطلق، لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه. ومن ثم، لا يمكن أن يتخفف الطالب من حمل هذه الوثوقية السلبية إلا بتدريبه على مفهوم التنسيب، تنسيب الآراء والأحكام، بل وحتى العلوم والفلسفات عامة.

نحيي وزارة التعليم على خطوتها الشجاعة والطموح، ونأمل أن تكون مفتاحا من عدة مفاتيح لتطوير التعليم، لجعله تعليما منتجا مشاركا في التنمية، مساهما قويا في الناتج الوطني، فهذه مهمة التعليم الحديث، وما بقي لا يعدو أن يكون فضلة.