ما يفعله ماكيافيللي في كتاب الأمير، هو بالضبط ما يفعله علم الاقتصاد، وهو أيضا فيما يبدو لي إحدى السمات الأساسية للحضارة الغربية الحديثة، فماكيافيللي لا يناقش الغايات بل يكاد يقول إن طبيعة الغايات ومدى نبلها أو حقارتها لا تهمه، وإنما يهمه فقط مدى النجاح في تحقيقها.

وأول ما يقوله أستاذ الاقتصاد لطلبته، وهو يعرفهم بعلم الاقتصاد، إن الاقتصادي لا يتدخل بتقييم الغايات «أو الحاجات»، وإنما مهمته هي تحقيق أكبر كفاءة ممكنة في توزيع الموارد «أي الوسائل» المحدودة بين الحاجات «أي الغايات» غير المحدودة.

يكفي أن يكون الهدف مطلوبا من بعض الناس، وأن يكونوا مستعدين لدفع ثمن له، ولا يهم بعد ذلك ما إذا كان جديرا أو غير جدير بالسعي من أجله، ومن الافتراضات المحببة في نظرية الاستهلاك أن المستهلك يفضل الأكثر على الأقل، بل إن النظرية كلها تسقط ولا تصبح ممكنة إذا لم نفترض أن المستهلك يريد دائما المزيد، بصرف النظر عن هذا الذي يريد مزيدا منه: مسرحيات لشكسبير أم أفلام بوليسية.

أليست هذه الفكرة أيضا، فكرة الكفاءة والوصول بالنسبة بين الغايات والوسائل إلى حجمها الأقصى، وبغض النظر عن طبيعة الغايات، هي الفكرة الأساسية وراء مبدأ المنفعة (Utilitarianism)، الذي وضعه جيرمي بنثام وسار على دربه فيه جون ستيوارت ميل (J.S.Mill)؟ أو ليست إحدى السمات الأساسية لفكرة المنفعة «وهي هنا تقوم مقام الهدف أو الغاية أو الناتج»، إنها فكرة بالغة التجريد يمكن أن تظهر في ألف صورة وتتخذ ألف شكل؟ المهم تعظيم المنفعة ولتكن هذه المنفعة ما تكون: سعادة أو لذة حسية أو رضا عن النفس أو منتجات استهلاكية أو أفلاما إباحية أو حتى مسدسات لقتل الناس.

أو ليست فكرة الكفاءة هذه القائمة على اتخاذ الهدف كمعطى من المعطيات، أيضا وراء فلسفة البراجماتية (Pragmatism) ووراء هذا التحليل الشهير باسم تحليل التكاليف والمنافع (Cost - Benefit Analysis) الذي يمكن أن يعتبر ما يحظى به من انتشار واحترام في العصر الحديث سمة من سمات هذا العصر؟ أو ليس المفهوم نفسه لفكرة الكفاءة أيضا وراء شيوع الافتتان بهدف النمو والتنمية مع إهمال طبيعة هذه الأشياء التي تجري تنميتها؟

على أن بعض التفكير في الأمر يقودنا إلى اكتشاف أنه ليس هناك في كل هذا شيء غريب بالمرة، أليس هذا العصر الحديث الذي نتكلم عنه والذي اعتبر ماكيافيللي أول تجسيد له «أو من أوائل المجسدين له» له سمة أساسية تكاد تغلب على كل سماته الأخرى، وهي التقدم التكنولوجي السريع؟ أليست التكنولوجيا إحدى الكلمات القليلة التي يمكن استخدامها للدلالة على هذا العصر ووصفه وتشخيصه؟ وما هي التكنولوجيا في نهاية الأمر؟ أليست هي فن تحقيق الهدف أو فن معرفة الطريق (Know - how) أو فن تطوير الوسائل، بصرف النظر عن طبيعة الهدف المقصود، وبصرف النظر عن طبيعة المكان الذي يؤدي إليه الطريق؟ هل من الغريب إذن أن تسود هذه النظرة إلى الغاية والوسيلة، ويسود التركيز على الوسائل على حساب الغايات، في عصر مفتون إلى حد الخبل بالتقدم التكنولوجي؟ لقد وصف ماكيافيللي عن جدارة بأنه أول رجل عصري، ولكني لا أكتمك القول أيها القارئ العزيز، بأني في أشد الشوق إلى أن أرى آخر الرجال العصريين! إننا نعرف الآن كيف بدأ هذا «العصر الحديث»، فيا ليتنا نشاهد قريبا نهايته!

1992*

* عالم اقتصاد وأكاديمي وكاتب مصري

(-1935 2018)