إكثار قيادة الحزب الإيراني في لبنان من الإطلالات الخطابية في هذه المرحلة يراد منه القول إن الدنيا بألف خير وتمام، وإن الوهن العام الضارب، طولا وعرضا، في اللبنانيين ودولتهم لا يسري على الحزب، ومنظومته وبنيته وماليته، ولا على بيئته، ولا على تحالفاته المحلية، ولا على خياراته المستقبلية، في ضوء ما تفعله مرجعيته في طهران.

لكن هل تكفي الخطابات والمطولات البلاغية تلك لإيصال رسالة القوة والبأس؟ أم أن ذلك الضّخ التعبوي يؤكد العكس تماما، ويدل على حالة مأزومة وصعبة وغير مألوفة منذ زمن طويل؟.

الأمر في حقيقته لا يحتاج إلى كثرة «فذلكة» لتفسيره، ولا إلى «الضرب في الرمل» لفك طلاسمه، فمن يتابع مسيرة حزب إيران، وطريقة شغله، يمكنه الافتراض أنه يواجه أسئلة صعبة، ولا يملك لها أي إجابات سوى الإكثار من الحضور الإعلامي، تعويضا لغياب الحضور الانتصاري المعهود، ودوام اليقين والاطمئنان إلى متانة البنيان، ورحابة البيئة الحاضنة، وتلقائية أخذها بأي كلام يقال لها، وأي خيار يطرح عليها، وأي سياسة تبلغ بها، وأي عدو جديد أو قديم يطرح أمامها للشيطنة والتكفير والاتهام. غياب الأجوبة الحاسمة والتلقائية والمعتادة يعني أن الأزمة حقيقية، وليست من شغل الإعلام المعادي، ولا من تركيب الأخصام والأعداء المحليين والخارجيين!، وفي ذلك تُوضع في خانة واحدة الكارثة الانهيارية للشأن اللبناني في كل مراتبه، وترافق اندثار قيمة العملة الوطنية، وتراجع القدرة الشرائية لعموم الناس، مع تراجع العناوين السياسية المشتركة مع حلفاء الحزب، وبين هؤلاء الحلفاء، وفي شؤون كبيرة وخطيرة وفعلية، وذلك في زبدته وخلاصته حصل، في ظل هيمنته على الشأن العام أو تحكمه بالمسار الوطني الرسمي وغير الرسمي، ولا أحد يمكنه أن ينكر حقيقة أن ما كان يريده يتم وما لا يريده لا يتم! لا في الكبيرة ولا في الصغيرة! لا في الانتخابات الرئاسية، ولا في تشكيل الحكومات، ولا في تقرير الخطوط العامة للسياسة الخارجية اللبنانية، ولا في التعيينات العسكرية والأمنية، ولا في أصغر من ذلك أو أكبر.

وبالتالي، فإن أزمة لبنان اليوم هي نتاج طبيعي لسياساته وخياراته، وارتباطه الاستلحاقي بإيران. الجسم المأزوم لا يحرك ذراعا سليمة!، وإيران الداخلة في أزمات مفتوحة مع ثلاثة أرباع دول الأرض لن تعكس على أدواتها وخدمها وتابعيها إلا تبعات تلك الأزمات!، وليس العكس هو الصحيح، وهذا واحد من الأسئلة التي لا يملك الحزب في لبنان جوابا يقينيا لها!، أي أنه يمكن للجمهورية الإيرانية أن تصل في وقت ما إلى اتفاق مع الغربيين على الملف النووي، والعقوبات المرتبطة به وبغيره، لكن ذلك لن يعني تلقائيا تبييض صفحة تابعها في لبنان!، وهو الذي انخرط في عداوات وصدامات كبيرة معهم، ومع دول وشعوب عربية وإسلامية، نيابة عن طهران!، ومتهم بسلسلة قضايا تتصل بالإرهاب في أكثر من مكان، وعلى مساحة تمتد من جنوب شرق آسيا إلى أوروبا إلى أمريكا الجنوبية!.

إيران الدولة مثلا تحكي مع دولة الإمارات العربية المتحدة، وتتفق معها على تطوير العلاقات في مجالات محددة، في حين أن حزبها في الضاحية الجنوبية لبيروت متورط حتى أذنيه في عداء سياسي وإعلامي مفتوح مع أبوظبي!، وكذا الحال بالنسبة إلى الكويت أو المملكة العربية السعودية، و«قصته» كبيرة وليست صغيرة، وصارت جزءا من التاريخ، وليست عابرة، مع شعوب سورية واليمن والعراق، ومعظم أقطار الخليج العربي!.

إدراجه مثلا في خانة الإرهاب في أكثر من دولة، آخرها أستراليا، هو رسالة خاصة به بقدر ما هو رسالة لإيران، وتأثيرات ذلك التصنيف عليه تكتسب ديمومة لا تسري على العلاقات بين الدول.. الاتفاق النووي كان مثالا على ذلك: عندما تم التوقيع عليه أيام إدارة السيئ الذكر باراك أوباما، تم رفع بعض العقوبات الأساسية عن إيران، لكن لم يتغير تصنيف «حزب الله» كتنظيم إرهابي في واشنطن!.

وهذا واحد من أمور أخرى تشغل بال الحزب أكثر من المعتاد على ما يبدو، خصوصا أن الأمر هذه الأيام يتم في ظل أزمة تمويل ملموسة، حتى لو جرى إنكار ذلك، ثم الأخطر أنه يتم في ظل الانهيار العام في لبنان، الذي ضرب بيئته مثلما ضرب غيره، وفي العمق وبطريقة غير مسبوقة منذ الاستقلال في 1943.

ولأن عقل الجائع في بطنه وليس في رأسه، فإن الأزمة المصيرية الراهنة أنتجت علامات تبرم، لم تكن واضحة سابقا، وراحت أصوات كثيرة من داخل تلك البيئة تسأل مثلا عن معنى التورط في حرب اليمن؟ أو معنى التعرض للمملكة العربية السعودية والافتراء عليها؟ ومعنى التهجم على دولة الإمارات أو على غيرها من الدول العربية التي اتخذت خطوات سيادية تتصل بمصالحها الوطنية العليا؟..

ثم كيف تسعى إيران إلى إعادة التواصل مع الأمريكيين من خلال رفع العقوبات، بينما حزبها في لبنان يتهم كل خصم بأنه «أداة أمريكية»، ويعد اللبنانيين بفتح معركة، لإنهاء ما يسميه «نفوذ الولايات المتحدة في دوائر الدولة ومؤسساتها الشرعية والعسكرية»، و«القضائية» تحديدا؟! الواضح الجلي، بعد ذلك، أن تحالفه مع تيار ميشال عون يتعرض تكرارا لمطبات وأزمات كبيرات، ويتعلق ذلك بالموقف الداخلي من مسار التحقيقات في انفجار المرفأ أو مسار الحكومة أو الموقف من استقالة الضحل وزير الإعلام، جورج قرداحي، بعد مواقفه المخزية، أو قصة العلاقة التنافرية مع الرئيس نبيه بري أو غير ذلك من شؤون لا يترك الحليف العوني فرصة سانحة إلا ويركب عليها، للقول للمسيحيين، عشية الانتخابات، إنه لم يبع لبنان لإيران!، وإنه ليس مديونا لحزبها في الضاحية الجنوبية، وإن «التمايزات» كثيرة معه، وعلى رأسها عدم ملاقاته في نكتة محاربة الفساد!، وعدم الوقوف إلى جانبه في المعارك المتتالية مع الرئيس بري، وعدم «الحسم» مع الأخصام الكثر الذين يهوى «عون» وصهره، جبران باسيل، تحميلهم أوزار فشل العهد!، وانكشافه التام أمام اللبنانيين عموما، وأمام الجمهور المسيحي خصوصا.

والمحصلة، التي تفهم من كل تلك المسارات، أن الفشل يتيم، بينما للنجاح ألف أب!، والجماعة، في جملتها، حكمت وتحكمت بكل شيء في السنوات العجاف الماضية، وكانت النتيجة أن لبنان اندثر أو يكاد، ودولته آيلة إلى الخراب التام في كل مرافقها دون استثناء، سوى ذلك الممكن إزاء المؤسسة العسكرية والأمنية، واللبنانيون يأنّون من وطأة ذلك الاندثار والانكسار، ويعرفون بالفطرة كما بالسياسة، وكما بالحقائق والوقائع والمعطيات الحسية، أن التركيبة التي حكمتهم كانت مكتملة شروط الفشل والكوارث والنكبات: حزب إيران بأدواره التخريبية في الخارج حطم علاقات لبنان التاريخية والطبيعية والجينية مع محيطه العربي، مما ولّد ويولّد وسيولّد أزمات لا حصر لها، تطول عموم اللبنانيين!، ويسعى جاهدا لتحطيم تلك العرى التاريخية مع الدول الغربية عموما، والولايات المتحدة خصوصا، مما يعنى وسيعني المزيد من الأزمات، وليس الحلول لما هو موجود منها بكثرة!.

والتيار العوني من جهته لم يترك طرفا محليا واحدا إلا واستهدفه، بدءا بالمناخ المسيحي وصولا إلى المناخ الإسلامي، بشقيه السني: عبر استهداف سعد الحريري، والشيعي: عبر استهداف نبيه بري، مرورا بطبيعة الحال بالمنافسين المسيحيين، وهم دون مبالغة كل صاحب حيثية سياسية أو فكرية أو مالية أو نظامية أو قضائية أو حتى دينية!، بحيث إن المروحة تضم كبار الموارنة دون استثناء، بدءًا برأس الكنيسة، البطريرك بشارة الراعي، مرورا بقائد الجيش، العماد جوزيف عون، وحاكم المصرف المركزي، رياض سلامة، ورئيس مجلس القضاء الأعلى، القاضي سهيل عبود، وصولا إلى سمير جعجع في الجبل، وسليمان فرنجية في الشمال، وغيرهما مثل الكتائب والمستقلين!.

ما يحصل، في جملته، يجعل أيام حزب إيران صعبة، واستثنائية في صعوبتها، ولذا يُكثر الضخ عن «انتصارات» محوره الإيراني في المنطقة، لتعويض انكساره في لبنان، وانكشاف عجزه عن مواجهة متطلبات السيطرة والتحكم، وعدم قدرته على مواكبة التفاصيل اللبنانية، فهو حزب يعرف كيف يدمر ويحطم ويعطل، لكنه لا يعرف كيف يبني ويعمّر ويشغّل، ولا يعرف، قبل ذلك، كيف يقارب السياسة من منظور مدنيتها، وليس دينيتها ولا عسكريتها!، ولا كيف يوفّق بين أدائه المذهبي الحاد ورحابة الاجتماع الوطني اللبناني وتعقيداته، في ظل وجود وتعايش ثمانية عشر طائفة وملّة! عداك عن الأحزاب والتنظيمات الكثيرة والراسخة الحضور مهما تواضع ذلك الحضور للبعض منها!.

لا يملك المراقب المحلي والخارجي إلا أن يفترض أن أوهام حزب إيران أكبر من واقعه، ووقائع الدنيا التي يسعى فيها، وهو في ذلك مثل مرجعيته في طهران التي تتوهم أدوارا كبرى، وتطلع إلى إحياء أمجاد تليدة، وهي بالكاد قادرة على تلبية حاجيات الإيراني في بلده، من الطاقة إلى المياه إلى كثير من المواد الغذائية الأساسية إلى الحفاظ على قيمة العملة الوطنية، وإلى غير ذلك الكثير من متطلبات العيش وشؤونه وحداثته!.

ومثلما تهرب القيادة الإيرانية من الداخل إلى الخارج والمشاريع المستحيلة، يهرب حزب إيران من الفشل الداخلي إلى إكثار الحكي عن أمجاد وبطولات خارجية!، لكن ذلك في كل حال لم يغيّب حقيقة أن انتصاراته المدعاة هذه الأيام صارت محصورة بالقدرة على تأمين باخرة مازوت ليس إلا!!.

* ينشر بالتزامن مع موقع «لبنان الكبير» في بيروت