صارت شيئًا من العبث عملية متابعة ما يقوله صاحب الشأن الرئاسي في الداخل والخارج إزاء القضايا التي تعني لبنان واللبنانيين، وقضاياهم الكبيرة والصغيرة. المتابعة تلك كانت ممكنة سابقًا بحكم الضرورة ودواعي المحاججة والاحتجاج، ودبّ الصوت على العالي للدلالة على شطط القول وخطورة الفعل، وتأثير الشأنين على المصير الوطني برمته، ثم للتأشير على صعوبة تقبل أداء رئاسي في نظام ديمقراطي يتشبه صاحبه بأداء حاكم استبدادي في نظام حزبي مقفل، أو ديني غيبي توجيهي وصلاحياته آتية من السماء مباشرة!.

لم يعد لتلك المتابعة من معنى أو حاجة، طالما أنها في الأساس لم تعدل حرفًا، ولم تغير أداءً، ولم تمنع انحدارًا، ولم تحفظ سلطانا، ولا سيادة ولا كرامة ولا قيمة ولا دستورًا، ولا رزقًا حلالًا زلالًا، ولا عزّة نفس ولا رفاهية، ولا انفتاحًا ولا نجاحًا، ولا دولة ولا مؤسسات ولا خدمات، ولا أسانيد تكسّرت بعد أن ارتكز عليها لبنان على مدى تاريخه، وصار بفضلها درّة الشرقين وجسر العالمين!. ذلك كله وأكثر منه، راح معسا ودعسا تحت عجلات عهد قاد عربته باتجاه مغاير للنظام والتركيبة والطبيعة والأعراف والأصول التي كانت تحكم وتتحكم بصاحب الشأن الرئاسي طوال سني الجمهورية، راحت العربة وسرحت على خريطة رسمها سائسها على هواه الذاتي والأناني والبيتي!

وفيها لا خطوط وفواصل وقواطع بين الدستور والبرنامج الحزبي الخاص، ولا بين القوانين والإرادة الرئاسية، ولا بين سيادة الدولة ومراعاة ومحاباة الدويلة.. ولا بين حقوق السلطة الشرعية الحصرية وادعاءات ضرّتها المدعية حماية الوطن و«مقاومة» أعدائه!

ولا بين فصل السلطات والتدخل فيها وتطويعها وهتك حرمتها والفتك بهيبتها.. ولا بين حدود الشريعة الدستورية وحدود تدخل مستشاري التشريع والتفسير غُبّ الطلب والهوى الكيدي.. ولا بين «حقوق» الطائفة والكيان الوطني و«حقوق» الصهر!

ولا بين المصلحة العليا للدولة ورعاياها ومصلحة مشروع «الزويعم» الطامح والجامح. غابت الفواصل والحدود في تلك الخريطة عن سابق إصرار وتعمد، واستنادًا إلى رؤية ركبت رأس صاحبها، وأنتجت في كل ترجمة لها كوارث وبلايا، ويريد الآن أن يضمن ديمومتها مع وريثه، بما يضمن القضاء على ما تبقى في وطن الأرز!

ليس أمرًا هينًا ولا بسيطًا أن يُقال لصاحب الشأن الدستوري الأول إنه غير دستوري! وإنه في مكان آخر غير الذي يعيش فيه مرؤوسوه!

وإن ما يقوله عن أحوالهم لا صلة له بأي واقع أو حقيقة! وإنه يدّعي ولا يصدق!

وإنه في ذلك خطى خطوة إضافية فوق مسار التيه الذي يعتمده: كان يقول شيئًا ويمارس نقيضه، ويطلق شعارا ويفعل عكسه، ويطلق الأحكام والاتهام ويرتكب، ويلعب دور الديّان، ويضع نفسه في موقع المدان.

كان يفعل تلك التورية بأريحية تامة، لكنه تخلى حتى عن ذلك الترف وراح للتماهي: صار يقول الغلط ويفعل الغلط!

ولم تعد تهمه التوريات والشكليات والدستوريات والحسابات، بل اختصر الموضوع كله بالهوس التوريثي الرئاسي.. ومن بعده الطوفان!

وليس أمرًا هينًا ولا بسيطا ولا عاديا أن يقول اللبنانيون (أو أي شعب آخر) إن مرجعهم هو علّتهم! وإن راعيهم هو ذئبهم! وإن أملهم هو كابوسهم! وإن حامي الحمى المدّعى هو الفاتك الظالم!

إن درعهم الحاني مدجّج بالأشواك واليباس وغلاظة الحسّ وانعدام الرحمة، وإنه في الخلاصة يعتبر الطغيان فضيلة، والاستبداد مكرمة، والمشاع العام حقا حصريا وخاصا.. وله وحده أن يورّثه لمن يشاء!.

* ينشر بالتزامن مع موقع لبنان الكبير.