استراتيجية تطوير المنظومة القضائية التي تشهدها المملكة في الوقت الحالي تقوم على محورين أساسيين، استكمال وتحديث التشريعات والأنظمة، وترقية مستوى الكادر البشري ورفع مقدراته وكفاءته بالتدريب المستمر. وهذه الرؤية الحكيمة تستند إلى قناعة راسخة بأن قدرات ومؤهلات القضاة والمستشارين الأفاضل هي الركن الأهم في التطوير ويعكس ثقة القيادة فيهم، وسعيها لزيادة معارفهم وتطوير قدراتهم لأنه بدون ذلك لا فائدة ترجى من تطوير التشريعات ومنظومة القوانين.

ومنذ إقرار رؤية المملكة 2030 تسارعت جهود ترقية المنظومة القانونية وذلك بسبب الارتباط الوثيق بين كفاءتها وقدرة الدولة على المنافسة في الأسواق العالمية من خلال التصنيف الذي تناله من الجهات المتخصصة، بناء على معايير محددة تتولى جهات دولية مراقبتها وضمان وجودها. لذلك فإن هذه المساعي تأتي داعمة للجهود الكبيرة التي تبذلها القيادة لترقية الاقتصاد عبر استحداث مشاريع نوعية وغير مسبوقة والانخراط في الاقتصاد العالمي.

خلال السنوات الماضية، وتحديدًا في هذا العهد الزاهر الذي نعيشه تحت قيادة خادم الحرمين الشريفين الملك سلمان بن عبد العزيز وعضيده وولي عهده الأمير محمد بن سلمان – حفظهما الله – تسارعت بصورة ملحوظة جهود تطوير المنظومة القضائية، وشهدت المملكة طفرة تشريعية هائلة تم خلالها إصدار وتعديل كثير من القوانين لاستكمالها والتناغم مع التطورات التي يشهدها العالم من حولنا، كما تم سن تشريعات أخرى شملت جميع جوانب الحياة، سواء على المستوى التجاري أو حماية الطفل والأسرة أو حقوق المرأة أو التنفيذ، مع التركيز على القوانين المتعلقة بحقوق الإنسان.

هذه الطفرة التاريخية تقف وراءها القيادة السياسية على أعلى مستوياتها وبمتابعة لصيقة يقوم بها سمو ولي العهد الذي يتمتع بسبب خلفيته القانونية برؤية واضحة وقناعة راسخة بأهمية تطوير النظام القضائي في ترتيب أمور الدولة ورفع دورها العالمي وتعزيز مكانتها الاقتصادية، وزيادة قدرتها على اجتذاب الاستثمارات الأجنبية، وهو ما نشاهده فعليًا حيث تبوأت المملكة مكانة رفيعة بين الأمم، وارتفع تصنيفها لدى المؤسسات المالية الدولية، وأصبحت قبلة رئيسية يتهافت عليها أصحاب الأموال من جميع دول العالم للاستثمار فيها.

في الوقت الذي تتم فيه ترقية منظومة القوانين والتشريعات يجري عمل مكثف على المسار الموازي لتطوير الكادر البشري ورفع مهارات القضاة وزيادة قدرتهم على التعامل مع المتغيرات الجديدة، وذلك لمسايرة هذه النهضة التشريعية، لأنهم يمثلون رأس الرمح في أي عملية تطوير، ولا مجال لنجاح أي جهد إذا لم يكن ذلك الكادر مؤهلًا لقيادة التغيير نحو أهدافه في إطار توجه الدولة نحو التحول الرقمي الكامل.

هناك جانب آخر في غاية الأهمية لا بد من إكماله للوصول للأهداف المنشودة، ويتمثل في ضرورة إزالة الازدواجية المصطنعة في عدم الفهم بين الدراسات القانونية والدراسات الشرعية، التي هي في حقيقتها مكملة لبعضها خاصة عندنا في المملكة التي نص النظام الأساسي فيها على الحكم بشريعة الإسلام الغراء، وفي هذا الإطار يبرز توجه وزارة العدل لإلحاق القضاة بمعهد الإدارة لدراسة الدبلوم العالي للعلوم القانونية، وهو ما يمثل خير دليل على ذلك.

وقد تابعت بتقدير عال مؤخرًا حضور وزير العدل الدكتور وليد الصمعاني تخريج أول دفعة من ذلك الدبلوم تضم عددًا كبيرًا من القضاة وقضاة ديوان المظالم، وسيتوالى بإذن الله خلال الفترة المقبلة تخريج دفعات أخرى حتى يكون القضاة على إلمام تام بالجوانب القانونية والتشريعية كافة، وأرى أن هذه الخطوة لا تكفي.. وقد سبقني إلى ذلك الزميل القانوني الخبير النظامي الدكتور محمد بن عبدالعزيز الجرباء وعضو مجلس الشورى حاليًا في مقاله قبل 26 سنة والمنشور في جريدة الرياض كما أشار إليه في كتابه شؤون قانونية، من أن هذا التوجه لم يعد يواكب المرحلة الحالية.. كما اطلعت على دراسة قانونية بعنوان تقييم التعليم القانوني في السعودية للخبير القانوني والأستاذ بمعهد الإدارة العامة الدكتور أيوب الجربوع أكد فيها أهمية إعادة هيكلة التعليم القانوني (الشرعي، والقانوني) بما يتناسب والنظام الدستوري والقانوني في المملكة؛ بحيث يكون الشرعي ملمًا بالجوانب القانونية، ويكون القانوني ملمًا بالجوانب الشرعية.

هذه الجزئية تحديدًا تكتسب أهميتها البالغة من التطورات التي تشهدها المملكة في الوقت الحالي، لا سيما انضمامها إلى منظمة التجارة العالمية والذي تترتب عليه تأثيرات كبيرة ومباشرة على النظام القانوني الداخلي، لأن تلك الاتفاقيات ستكون جزء من هذا النظام الداخلي.

كما تزايدت الحاجة لإزالة ذلك التناقض بعد صدور نظام القضاء ونظام ديوان المظالم والآلية التنفيذية لهما بالمرسوم الملكي رقم م/78 وتاريخ 19/9/1428هـ، حيث تم بصدورهما نقل القضاء التجاري والعمالي والجزائي إلى محاكم متخصصة (عمالية، جزائية، تجارية) مما يتوجب معه أن يكون القضاة الذين سيعملون في هذه المحاكم مؤهلين ليس فقط شرعيًا بل بالجوانب النظامية بحيث يكون لديهم المعارف والمهارات للتعامل مع الأنظمة واللوائح.

ولا ننسى أن وجود محاكم تجارية متخصصة يوجد بها قضاة متمكنون وملمون بتفاصيل القوانين التجارية، يمثل مطلبًا ملحًا للمستثمرين الأجانب الذين يركزون على استثمار أموالهم في بيئات آمنة تضمن حقوقهم، وهو ما انعكس بحمد الله على بلادنا التي تشهد إقبالًا كبيرًا من رجال الأعمال والشركات العالمية التي تكاد تتسابق للعمل في المملكة عطفًا على ما يوجد لديها من إمكانات وتسهيلات وسوق واعدة وبنية تحتية متطورة ومنظومة قانونية متكاملة.

ختامًا لا بد من التأكيد مجددًا على أن قضاتنا الكرام الأفاضل هم مبعث فخرنا وجهودهم مشهودة وقدراتهم معروفة، واكتسب القضاء السعودي خلال السنوات الطويلة الماضية أعلى درجات الموثوقية والنزاهة بفضل جهودهم، لذلك فإن مساعي ترقية الكوادر البشرية في الحقل القضائي ينبغي أن ينظر إليها من منظور الرغبة في تعزيز الكفاءة.

وكلي ثقة في أن القيادة الحكيمة التي أكدت في كثير من المناسبات ثقتها التامة والكاملة في رجال القضاء وتقديرها لما يبذلونه سوف لن تتوانى عن تقديم كل ما يعينهم في أداء مهامهم، ويأخذ بأيديهم إلى طريق النجاح والتطور الذي تسير عليه المملكة في جميع جوانب الحياة. من كل ما تقدم أرى أن تطوير مناهج كلية الشريعة ودمج دراستها بالقانون ومنع ازدواجية الدراسة بحيث يكون الخريج عارفًا بالفقه وأصوله والأحكام الشرعية وفي الوقت ذاته بالقوانين المعاصرة المحلي والدولي منها، لنصنع قضاة خبراء ومستشارين علماء ورجال نيابة نجباء.. عندئذ نكون قد بدأنا الخطوة الأولى في الاتجاه الصحيح الذي يواكب تطلعات ولاة الأمر حفظهم الله مع المحافظة على الاعتماد على الشريعة وما يتبعها من قوانين حديثة.