من جديد تثبت المملكة العربية السعودية ريادتها الدولية في صنع القرار العالمي، ليس من ناحية ثقلها الاقتصادي فقط، أو مكانتها في ريادة العالم العربي والإسلامي، وإنما في إرساء القيم العالمية، وبيان العديد من الجوانب الإستراتيجية التي قد تخفى على المحيطين بنا في جميع المستويات.

ومما سنركز عليه هنا قضية تمسك المملكة العربية السعودية بالقيم الأخلاقية والاجتماعية والاقتصادية التي تكفل خصوصية الشعوب وتمايزها وفق دينها ومعتقداتها وثوابتها الاجتماعية والثقافية، ولعل الآيات التي افتتحت بها القمة وهي قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبًا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله أتقاكم إن الله عليم خبير)، تشكل إشارة واضحة لا لبس فيها أن قيم الشعوب تختلف من بيئة لأخرى، وهي التي تمثل الأساس الذي تنطلق منه السياسات، ومنه تتفرع إلى رؤى ورسائل وأهداف وبرامج ومؤشرات ومستهدفات تطبق على أرض الواقع.

ولعل من اللافت خلال القمة الكبيرة التي ضمت دولاً محورية في المنطقة أن الرؤية الموحدة تجاه القيم تشكل جبهة واضحة وتشير بأن الجميع يقفون وراء هذا الكيان العظيم، ويثقون بأن توحد الآراء تجاه قضايا القيم يرسل رسالة للعالم أنه لا تنازل عن الثوابت، وأنه لا بد من الإيمان بأن فرض القيم من جانب واحد لا يؤدي إلى تعميمها، وإنما إلى مزيد من المشكلات، وقد أشارت كلمة سمو ولي العهد إلى هذه المعاني بوضوح.

ومما تجدر الإشارة إليه أن المملكة العربية السعودية هي بلد وضع نصب عينيه أن التوحد وحل الخلافات بالطرق العقلانية هو أنجح الطرق للوصول إلى تفكير جمعي يكفل الوصول إلى تحقيق الأهداف المشتركة، وأقصر الطرق بين نقطتين هو الخط المستقيم.

إن الدروس المستفادة في التفكير الإستراتيجي من هذه القمة يوضح لنا جميعًا أن رسم الأهداف يحتاج إلى جمع المعلومات، والتقصي الدقيق لتبعات القرارات، ومن ثم اتخاذ الإجراءات الملائمة لتحقيق المرامي البعيدة، كما أن الصبر وعدم التعجل هو بمثابة النور الذي يضيء الطريق، وبدونه قد تكون القرارات عكسية الأثر وغير ذي جدوى في كثير من الأحيان.

إن مدرسة المملكة العربية السعودية في التفكير الإستراتيجي تبين بشكل واضح أن منشأ السياسات لا بد أن يكون وفق قواعد متينة، وهذه القواعد إذا لم تكن واضحة لواضعي السياسات وللجهات التي تستفيد منها فإن التطبيق سيعتريه الخلل، وسوء الفهم، ومن ثم التصرف المضاد الذي لا يحقق الأهداف المشتركة.

قمة جدة للأمن والتنمية تحوي العديد من الرسائل الإستراتيجية والدروس المستفادة التي تستحق منا المزيد من التأمل، واستخراج الفوائد وتعميمها من خلال التحليل الدقيق والاستقراء البحثي الذي يشكل مادة خصبة للباحثين في المجال الإستراتيجي على مدى فترة طويلة، بل يمكن أن تكون أساسًا للمزيد من الأبحاث والتحليلات التي لا يمكن أن يتسع لها المجال هنا، لكن ختامًا يمكن اعتبارها وثيقةً للتعلم الإستراتيجي لكل من أراد التميز في التفكير، ونجاح رؤيته الإستراتيجية في كل المستويات.