أعاد طلب قاتل، الجيرة من والد القتيل ـ وهما ينتميان إلى قبيلتين مختلفتين ـ إلى حين تسليمه إلى الجهات المختصة، الجدل حول «الجيرة» وهي عرف قبلي، إلى الواجهة سواء في المجالس ومواقع القبائل أو وسائل التواصل، وأثار كثيرا من النقاشات حول مشروعيتها، وما إن كانت الحاجة لها قد انتفت تماما في ظل وجود أجهزة القضاء والنيابة والأمن، بل ووصل الأمر إلى حد النقاش حول ما إن كانت تعرقل عمل هذه الأجهزة أو تعيقها.

وكانت القبيلة في أوقات مضت، حين لم يكن هناك سلطة مركزية وقوانين نافذة تحل نزاعاتها وتنصر مظلوميها وتدافع عن حقوقها وتحقن الدماء خشية الفتنة بأحكام وأعراف قبلية كان لها سلطة في الأحكام ومرجعية في فصل النزاعات.

وكانت جرائم القتل جزءا من هذه النزاعات وواحدة من أهم الجرائم التي يعود التحكيم فيها إلى القبيلة، وخاصة حين كان الثأر نارا ممتدة قد تبدأ شرارتها بقتل فرد وتنتهي باقتتال قبيلتين أو قتل أفراد قبيلة كاملة.

ومن الأعراف التي سادت في ظل تلك الأجواء ما عرف بـ«الجيرة»، أي الحماية التي يبحث عنها القاتل عند أهل المقتول.

والجيرة، تعريفا هي عادة قبلية ضاربة في القدم تجير بموجبها قبيلة ما شخصا هاربا من قبيلة أخرى وتحميه، ويطلق عليها أيضا مصطلح الدخالة والدخيل هو المستجير.

وكانت هذه العادة بما تتضمنه من حماية المستجير تعد من العادات الحميدة التي تدل على الشهامة، وربما تدل أكثر على النفوذ.

حماية المعفي يقول الباحث في التاريخ وقبائل الحدود محمد بن حمد القحص آل هتيله عن الجيرة بأنها «عرف قبلي له تاريخ، ويحدث عندما تلجأ قبيلة القاتل إلى إحدى القبائل وتتجوّر لديها، وتذهب القبيلة المجوّرة إلى أصحاب الدم ويقولون لهم القبيلة الفلانية: (طابت جيرتنا ونحب نخبركم)، فإن كان هناك ما يمنع الجيرة أوقفوه وتشارعوا عند أحد مراجع القبلية، وإن كان ليس هناك مانع أجازوا الجيرة لمدة سنة وشهرين».

«والجيرة من العادات العربية لحماية المعفى لئلا يُعتدى عليه وتحقن الدماء بين القبائل، وكان هذا الأمر سائدا قبل توحيد المملكة، واليوم -ولله الحمد- نحن في حماية الله وجيرته وجيرة حكومتنا الرشيدة، وأرى ويرى كل عاقل أن الدولة هي الراعية والحامية بعد الله، ومنع الجيرة أمر صائب؛ لأن الدولة لديها أنظمة تحمي المجتمع والقبيلة من المعتدي، فمن حق الدولة تطبيق النظام لما يخدم المجتمع ويوقف انتشار الضرر».

ويشير القحص إلى الأبعاد السلبية حاليا للجيرة، وما يمكن أن تثيره من فتنة، ويقول «للجيرة تبعات بعضها قد يكون سلبيا، فلو قتل المستجير مثلا، فلا بد للقبيلة التي أجارته أن تقتل أحد أفراد القبيلة التي قتلت فردا أو أفراد منها، وهنا تتشعب المشكلة، وهذا ليس مثلا افتراضيا، بل سبق أن حدث كثيرا عند القبائل، وكانت للجيرة أهمية في السابق لقرب القبائل، حيث تنقل القبيلة التي تطلب الجيرة وتسكن عند (المجوّريين) كضمان اجتماعي، لكن الأحوال والأوضاع تغيرت اليوم، لذا فإن منعها خير، خصوصا مع التغيرات الاجتماعية والقانونية، حيث باتت لا تتناسب مع الزمن».

أصول وضوابط يوضح شيخ شمل قبائل وايله، الشيخ محمد بن مشبب آل دايل بن فارس، بعض ضوابط الجيرة التي كانت تأخذ بها القبائل، على الأخص في جرائم القتل، ويقول «كانت الجيرة قديما وسيلة لحل النزاعات وفض المشاكل لعدم وجود قانون أو نظام، لكن الآن الوضع مختلف، والجميع في ظل حكومة رشيدة تعطي كل ذي حق حقه وتحفظ حقوق الجميع، وتحفظ الأمن والاستقرار.

وقد أنشأت الحكومة الرشيدة لجان إصلاح في كل إمارة تتكون من عراف ووجهاء قبائل المناطق وذلك لإصلاح ذات البين، وهذا من الشريعة الإسلامية وضمن العادات القبلية، لكن في صدد الحديث عن الجيرة، فالجيرة هي حق مشروع حسب عادات القبائل».

«والجيرة حسب العادات القبلية مدتها سنة وشهرين للجاني وللمتعاونين معه من فخذه، حتى يصفي نفسه من العيوب التي وقعت وقت القتل وهي:(العيب) لو قتل شخص دون سبب، و(الهماء) عند إنكار الجريمة، و(السَلَب) وهي نزع سلاح المقتول في الجريمة، و(التشميس)وهو ترك المقتول في الشمس، و(التشوية) ؟؟؟؟؟؟ بحيث شوه جثة المقتول، وهي عند القبائل أهم من الدم، فإذا كانت هذه العيوب أو بعضها، فعليه هو وفخذه الوفاء بها لولي الدم، وبعد الوفاء لا يتبقى له جيرة حسب العادة (ويسمح له) بالسيار (من يسيره لقضاء حوائجه الضرورية) أو القطار (المجاورة في السكن)، وإذا لم يوف بالعيوب المذكورة فيبقى عايبا، ولا له أي جيرة أو (قطار) أو (سيار) هو ومن وقف معه.

الأولى بالجيرة من جانبه، يرى رئيس المجلس البلدي في نجران سابقا، عضو حقوق الإنسان، زيد بن علي بن شويل اليامي أن للجيرة أبعادا إيجابية في الحد من خطر الجريمة، ويقول «كانت ثقافة الثأر لا تفرق بين مرتكب الجريمة وبين بقية أفراد أسرته أو قبيلته، فوجدت بعض الأعراف آنذاك لتعالج تلك القضايا، وتعارف عليها الناس حتى أصبحت مقبولة كأمر طبيعي، وفي مقدمتها عُرف الجيرة، حتى لا تتحول الأمور عند وقوع جريجة إلى حرب شاملة قد تطحن الجميع ولا تعرف لها نهاية، وعندما بسطت الدولة -أدام الله عزها- نفوذها، ركزت على الأمن والاستقرار وحل النزاعات وإنصاف المظلوم وردع الظالم فحلت أجهزة الدولة محل القبيلة، وحلت المحاكم محل الشيوخ، وحل القصاص محل الثأر، واختفت كثيرا الأعراف لانتفاء الحاجة إليها، وتغير كثير من العادات، إلا أن جرائم القتل لا زالت تحتاج إلى بعض التدخلات السريعة التي لها ما يبررها في بعض الجوانب».

وأضاف»سوف أركز على محورين أساسيين بخصوص ما تبقى من عادة الجيرة، وما لها وما عليها، وهي: أولاً: عندما تحدث جريمة القتل تكون جميع الاحتمالات مفتوحة، إلا أنها لا تخرج عن ثلاثة احتمالات وهي:

ـ أن يسلم الجاني نفسه للدولة وهنا تقل نسبة التداعيات السلبية ولكنها لا تنتهي.

ـ أن يهرب الجاني ويختفي فيقوم ذوو المجني عليه بالبحث عنه وربما تحصل بينهم وبين أقارب الجاني أو حتى قبيلته مواجهة خطيرة.

- قد تقوم قبيلة أو أكثر بالتدخل السريع إما بمبادرة منها أو بناء على طلب قبيلة الجاني فتحمل هذه القبيلة المجيرة أو الساعية في تهدئة الأمر).

وفي هذه الاحتمالات الثلاثة رسالتان إلى قبيلة المجني عليه، الأولى تشعرهم أن قبيلة الجاني غير راضية بما حصل وتخشى منهم وتقدر موقفهم ومستعدة لكل ما يلزمهم ويبرئ ساحتهم، بما في ذلك البحث عن الجاني وتسليمه للدولة، وبذلك إثبات بعدم معرفتهم ولا رضاهم بما حدث، فيكون لذلك دور عظيم بامتصاص الغضب.

أما الرسالة الثانية فتعطي عاقلة قبيلة المقتول وكبار السن المبرر لمنع الجهال من أي تعد وضبط النفس، وقطع الطريق على من يصطاد في المياه العكرة؛ ولهذا الأسلوب عدد من المبررات منها أن التحرك القبلي أسرع من تدخل السلطات المحكوم بإجراءات وضوابط محددة تركز على الجاني وضبطه، بينما سعي القبيلة يكون سريعا وشاملا بحكم اتصالها ومعرفتها بجميع الأطراف، وهذا المحور بمجمله وتفاصيله يعد عونا للدولة وأجهزتها، وليس بديلا عنها، ومن وجهة نظري أنه إن لم يشجع فلا يمنع إن كانت إليه حاجة.

ويوضح ابن شويل كون الجيرة عونا للدولة في الحد من أثر الجريمة، وهو ما يلخص قوله بإن الجاني قد يلجأ إلى الهرب خوفا على حياته، فيلتجئ بصفة غير معلنة إلى من يجيره، فيقوم من لجأ إليه بحمايته والمحافظة على سلامته، ويستدعي السلطة ويسلمه لها، فيكون قد قام بما تلزمه به العادة، وتعاون مع الدولة وساهم في محاصرة الشر، وهذا أيضا عمل مقبول وليس فيه ما يوجب منعه، أما إذا استجار الجاني بمن يساعده على الاختفاء والهرب من العدالة وأطاعه وتستر عليه بحجة الجيرة وترك القضية مفتوحة لحلول خارج النظام، فهنا يعد شريكا في الجريمة ويجب منعه وردعه ومجازاته وجعله عبرة لغيره.

طريق للإفلات من الناحية القانونية، يشير المستشار القانوني، المحامي عاصم خواجي إلى أن «هذه العادة يجب أن تزول بزوال مسؤولية القبائل عن حل بعض النزاعات، إذ إن هذا الأمر الآن بات من صلاحيات واختصاص الدولة وأجهزتها الأمنية والقضائية، وهذا النوع من الحماية يمثل مجاراة مفلسين، وتعد مساهمة جنائية تبعية غير مرتبطة بأصل ارتكاب الجريمة، ويكون دور المساهم فيها لاحقا على ارتكاب الجريمة، والمساهم في هذه الحالة يمسى المخبئ أو المخفي أو ما تعددت تسميته، وهو أمر يعاقب عليه النظام السعودي العادل، وتمسك بعض القبائل بهذه العادة وترجمها إلى الاستجارة بالكبير عالي الشأن في القبيلة، فأصبح من يدخل دار الشيخ آمنا، ثم آلت تدريجيا إلى ما هو معتمد في بعض القبائل الآن من استجارة شخص أو قبيلة بقبيلة أخرى، ويساعد هذا النوع من الحماية في إفلات الجاني من تطبيق نص القاعدة القانونية، التي أنشأها القانون على أساس العدل وتطبيقه على جميع أطياف المجتمع على حد سواء، وقبول هذه العادة فيه ظلم للضحية أو المجني عليه، كما قد تنطوي على التشجيع على الاعتداءات وتكريس الإفلات من العقاب».

وأضاف «شرع المشرع السعودي عقوبة لكل جريمة على حدة، سواء أكانت حدودا أو قصاصا أو تعزيرا، وهذا التشريع فيه عدل، ولا يوجد ما يمنع من الصلح فيه بين أطراف القضية، كما أن التستر على جرائم الجنايات أمر معاقب عليه لدى النظام السعودي، ففي حال قيام فرد بالتستر على مجرم في جرائم الجنايات ومنها الاعتداء على الأنفس والأموال وجرائم القتل باختلاف أشكالها أو السرقة أو شرب المخدرات ونحوها، وفي حال توافر أركان جريمة التستر على جان، هنا يتم فرض العقوبة المستحقة ضد المجرم، وقد تتراوح العقوبة بين السجن أو التغريم المالي أو بهما معا، وفق ما تقتضيه السلطة التقديرية للقاضي، وما يراه مناسبا مخالفة صريحة للأنظمة».

تنفي المحامية، المستشارة القانونية شروق محسن العتيبي وجود تكييف قانوني صحيح لعادة الجيرة، وتقول: ما لا خلاف عليه أن ما سُمي بالجيرة أمرٌ باطلٌ شرعًا ونظامًا وعقلاً؛ إذ إن حفظ الأمن ومنع التعدي هما من مهمات الدولة، ومصدر الجيرة بالأخص (الجيرة من القتل) هي أعراف سابقة، والعمل بها والتحاكم إليها من الأعمال غير المشروعة، إذ إن كل من يقيم في المملكة العربية السعودية شاء أم أبى يبقى خاضعا لأنظمتها وللشرع.

وقد منعت الأنظمة تلك الأعراف ومن ذلك القرار الصادر من أمير منطقة عسير لمنع الجيرة (ردية الشأن)، وهذا قرار صائب يتوافق مع الشرع والنظام.

ولما كانت (الجيرة من القتل) أمر غير مشروع ومخالفة صريحة للأنظمة لا بل تعد على الأنظمة لذا لا يمكن أن نجد لها تكييفا قانونيا صحيحا، إذ إن مفهوم التكييف القانوني هو تحديد الوصف القانوني الصحيح للوقائع وهذه العادة يستحيل أن نجد لها وصفا قانونيا صحيحا.

الجيرة

هي عادة قبلية ضاربة في القدم تجير بموجبها قبيلة ما شخصا هاربا من قبيلة أخرى وتحميه

مبررات من ينتقدون هذه العادة حاليا

ـ فات أوانها ولم يعد لها مبرر ـ حفظ الأمن ومنع التعدي من مهمات الدولة

ـ إعمالها ربما ينطوي على مشاركة ومساهمة بالجريمة

ـ العمل بها ربما يشجع على ارتكاب الجرائم

ـ العمل بها ربما يؤثر في العدالة التي هي من حق الجميع

ـ الأخذ بها ربما يهدر حقوق الضحية أو المجني عليه

حجج المؤيدين لاستمرارها

ـ هذه العادة خففت من ثقافة الثأر

ـ منعت تحول الجريمة إلى حروب بين القبائل

ـ تؤمن أحيانا تدخلا سريعا مفيدا خصوصا في جرائم القتل

ـ القانون يركز فقط على الفاعل، بينما الجيرة تشمل كل أفراد القبيلة أحيانا

ـ أحيانا يكون التحرك القبلي أسرع من تدخل السلطات المحكوم بالإجراءات والضوابط

ـ استمرارها ربما يعين الدولة وأجهزتها وهي ليست بديلة لهذه الأجهزة