الإطار الفكري ذلك القيد الذي لا يمكن الفكاك منه كلياً، وكل إنسان مقيد به إنما بدرجات متفاوتة ومتباينة، إن الإنسان ينظر لكل ما حوله، وحتى لنفسه من خلال إطار فكري، وهو طريقة التفكير وكيفية استيعابنا للمعلومات وتفسيرها، وهو القالب الذي يشكل أفكارنا.

يتكون الإطار الفكري من مفترضات غرست في العقل الباطن للإنسان، ويبدو أنه لأن الإنسان يشعر أن مصدرها داخلي يعتقد أنها من البديهيات/ اليقينيات، وهي في الحقيقة مجرد افتراضات، ويعتقد الإنسان أن كل ما هو خارج هذا الإطار باطل وخطأ، ويتفق جميع المفكرين على أن الإنسان لا يستطيع النظر إلى العالم إلا من خلال إطار فكري، وكما قال الدكتور علي الوردي «والعجيب أن بعض الناس ينكرون وجود إطار على عقولهم، إنهم بهذا يبرهنون على تعصبهم الشديد، فكلما اشتد اعتقاد إنسان بأنه حر في تفكيره زاد اعتقادي بعبوديته الفكرية»، بل إن الفيلسوف وعالم النفس الشهير ويليام جيمس يقول، إن العقل البشري جزئي ومتحيز بطبيعته، وإن العقل لا يستطيع التفكير المثمر إلا إذا كان جزئياً في نظرته ومتحيزاً في اتجاهه.

إذن نحن جميعاً تشكل أفكارنا إطارات فكرية لا فكاك منها، ومن الطبيعي أن نشعر أن كل ما يخالف إطارنا الفكري خطأ وباطل، ولكن حر التفكير من استطاع أن يروض نفسه حتى يكون لديه مرونة في التعاطي مع وجهات النظر الأخرى مهما بدت مختلفة فهي فقط تبدو مختلفة لأنها صدرت من شخص يملك إطاراً فكرياً مختلفاً عن إطارك، ولا يعني بالضرورة أنها خطأ كما لا يعني بالضرورة أنها صواب، وبالمناسبة بدأنا نرى كثيراً من الكتاب والمحدثين العرب هذه الفترة ممن يتطرقون لهذه القضية يقعون في الأخطاء نفسها التي يحذرون منها، فتراهم يرددون أن التحرر من الإطار الفكري هو بمخالفة الموروث، لتصور سطحي لديهم بأن الإطار الفكري هو فقط الموروث، ومن الواضح أن هؤلاء سجناء إطار فكري يمكن أن نسميه مخالفة الموروث، وهم لا يختلفون أبداً عمن ينتقدونهم رغم أن القرآن الكريم نفسه حذر من إطار «إنا وجدنا آباءنا»، ولكن ليست القضية بهذه السطحية التي يصورها هؤلاء.

وكما أسلفنا لا يوجد شيء اسمه تحرر كلي من الإطار الفكري، وكل من يدعي ذلك فهو أشد الناس تقيداً، ولكن الهدف هو توسعة الإطار الفكري وجعله مرناً، وليس القفز من إطار إلى آخر وما كان بالأمس حقيقة كاملة يصبح اليوم باطلاً كاملاً يقول الوردي، ولعله أهم من كتب حتى الآن من المفكرين العرب عن هذه القضية الخطرة يقول:

«ولعل بعض الأفذاذ النادرين من الناس يستطيعون أن يدركوا ما ركب على عقولهم من إطار، فهم يتحيزون في تفكيرهم قليلاً أو كثيراً، ولكنهم يدركون في الوقت نفسه أنهم متحيزون»

وعليه فإنه للتعامل مع حقيقة هذا القيد يلزم الاعتراف بالتحيز ابتداء ثم إخراجه من اللاوعي إلى الوعي بحيث يعرف الإنسان تحيزاته تماماً، ويكون منفتحاً على الرأي الآخر، ويكون شديد التدقيق بين ما هو ظني وما هو قطعي، ويأخذ في الاعتبار أن كل ما هو داخل إطاره الفكري سيبدو قطعياً وما هو خارجه يبدو غير ذلك، فالتاريخ يخبرنا عن غلطات فادحة ارتكبها علماء كبار، بسبب قيود الإطار الفكري مثل قصة ألبرت أينشتاين والثابت الكوني، وقصة اختراع إديسون للحاكي عندما عرضه على العلماء قالوا جميعاً إنه مستحيل أن يسجل صوت إنسان على أسطوانة بل قالوا إنه مستحيل حدوث ذلك فيزيائياً! وغيره مئات الأمثلة.. ومن يدرس مسيرة العلم يرى بوضوح كم كان قيد الإطار الفكري يثقل حركة هذه المسيرة.

وفي الختام، هذه القضية مثلها مثل أي قضية فكرية أخرى يوجد فيها رأي لمتطرفين ذهبوا إلى العدمية والسفسطة، ويقولون إنه لا يوجد شيء في الوجود أكيد حتى الوجود نفسه يشككون فيه، وهذا رأي مغال ومتهافت، ولكن ما ندعو له هو أن يكون الإنسان مرناً واسع الإطار الفكري، قاعدته أن رأيي صواب يحتمل الخطأ، ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب، وتحرر التفكير بتوسعة الإطار الفكري يخلق عند الإنسان قدرة على حشد افتراضات أكثر وقدرة على التخلي عن الافتراضات التي تناقض البرهان.