( وهذا جبل طويق الذى احتضن روضة الخفس، وقام عليها كالأم الرؤوم، وقد كانت لها جولات ونزهات من حول أرباضه وبين سفوحه، ولقد أذكر مرة أننى خرجت مع رفيق فى إصباحة باكرة لمحاولة التعلق بأهداب ذلك الجبل، والتصعيد إليه، فقضينا زهاء الساعتين فى محاولات عابثة عدنا منها بالضنى والكلال، والعجز عن إدراك الغاية، فقد كان الجبل مقطوع الأطراف كأنه حائط قد بالسيف، أو كأنه برج معلق فى الفضاء، أو كأنه حصن لم يضع له صانعه مصعدًا، حتى قلت لصاحبى:

لعله جبل السموأل، فإن لم يكنه فهو فى صفته على الأقل، ولعله كما قال فيه صاحبه: لنا جبل يحتله من نجيره منيع يرد الطرف وهو كليل

فقال لى: أجل، منيع يرد الطرف فهو كليل!، ومع ذلك لم نيأس من تلك المحاولة السابقة، فقد عمدنا إلى محاولة أخرى أوسع نطاقًا، فركبنا سيارة وقمنا بجولة التفاف حول الجبل علنا نبصر منفذًا إليه، وبعد جهد جهيد عدنا أدراجنا من حيث أتينا دون أن نظفر من جبل السموأل بطائل!، وكل ما أمكن أن نظفر به منه هو اقتناء حصباوات غريبة الشكل من حصباء الجبل لفتت نظرنا بأحجامها الدقيقة الغريبة ومناظرها الخلابة الرائعة) .

فكرة الرحلة

هكذا لخص الشاعر الأديب والصحافي فؤاد شاكر «1905- 1973»، أحد رؤساء تحرير «صوت الحجاز»، لحظة عاشها في كنف جبل طويق قبل انتصاف القرن العشرين، حين حل في نجد هو ونفر من رفاقه من مكة والمدينة وجدة تلبية لدعوة من الملك عبدالعزيز، وتحديدًا في عام 1360هـ،. وفصل شاكر ذلك في كتابه «رحلة الربيع» بقوله: «المعروف أن حضرة صاحب الجلالة الملك يفد إلى مكة فى موسم الحج من كل عام فيمضى فيها شهرين أو ثلاثة، حيث يتشرف أعيان المملكة وغيرهم بالمثول بين يدى جلالته طيلة مدة إقامته فى مكة..

وكثيرًا ما تجرى فى هذه المجالس أحاديث الإخلاص والولاء لجلالته من الحاضرين، فيحاول بعضهم في معرض الإعراب من الولاء أن يتمنوا على جلالته الاستزادة من أيام إقامته فى مكة، فيشكرهم على عواطف ولائهم وإخلاصهم، وقد حدث فى مرة من تلك المرات، أن قال لهم جلالته إنه حقيقة لا تكفينى هذه المدة الوجيزة التى أقضيها معكم، وإني لو استطعت لقضيت العام كله عندكم، ولكنكم تعرفون الحقيقة، وتعرفون الأسباب التى تحملني على تجزئة الوقت بين شقي المملكة، وأهم تلك الأسباب شغفي بالبادية التى نشأت بها وقضيت الشطر الأكبر من حياتى فيها، وإنما الواجب عليكم أن تزوروا نجدًا وتتعرفوا إليها عن كثب، فلا أظنكم تعرفون عنها إلا الشيء القليل، وأنتم شعب واحد وأمة واحدة، وقد توافرت -ولله الحمد- أسباب المواصلات للانتقال والتزاور».

مشاعر حميمة

دون فؤاد شاكر مشاعر حميمية تجاه طويق وراح يقول: بعد أن صحبناه شهرًا من الزمن أو يزيد، وبعد أن كانت لنا معه تلك الجولات الشائقة في الإصباح والإمساء، وبعد أن أصبحت قطع من حصبائه تقوم بعملها على مكتبي في حراسة الأوراق من الهواء!! من تلك الحصباء التي صحبتها من سفوحه.

وهذا «غدير الخويبي» الذى يقع في شرق الروضة ويحتضنه جبل طويق، متنزهنا فى كل يوم، كيف نودعه اليوم، وكيف لا نحِن إليه ولنا فيه ذكريات، فقد كانت تنتظم حلقة الرفاق فى ظلال أشجاره، أو تسبح على موجات مائه، أو تتسامر تحت أغصانه، ملتهية بما توحيه تلك الجلسة عن عبق الحديث الذي يختلط نشره بسوق الروضة وجمال الماء. ومن الذكريات التى لا تنسى فيه أن، الشيخ عبد الله الشيبي، يأبى أن يقضى نزهته حول ذلك الغدير إلا مختبئًا تحت أغصان أشجاره، مستترًا بها، وفوهة بندقيته مصوبة من خلال الأشجار والأغصان إما إلى كبد الجو الفضاء يتلمس طيرًا هائمًا، وإما إلى سطح الماء يتلمس طيرًا ظامئًا، فإن لم يظفر في كلتا الحالتين بضالته من الطيور الضالة فلا أقل من طلقة أو طلقتين يرسلهما مدويتين عبر الفضاء ليعرف الرفاق أن الشيخ قام بمهمته خير قيام، وأنه صوب بندقيته وأطلقها، ولا عليه بعد ذلك إن أخطأ أو أصاب، فالمرء عليه أن يسعى إلى الخير جهده، وليس عليه أن تتم المطالب، كما يقول الشاعر!!.

روضة الخفس

خلال الرحلة كان الملك عبدالعزيز يقضي جل وقته في «روضة الخفس»، ويستفيض شاكر في رواية لقاءات الوفد مع جلالته، ويومياتهم في الحياة بمدينة الرياض، وتجوالهم في خارجها مثل الخرج والدوادمي وأماكن أخرى من نجد، ويقول قال لنا جلالته إنه فى اليوم التالى سيغادر الرياض عائدًا إلى روضة الخفس، حيث الخيام الملكي هناك، وإنه يتركنا فى الرياض لقضاء يومين فيها لنصلح من شؤوننا وتزود من معرفتها. وفي صباح اليوم التالى غادر جلالته قصره العامر الذى هو خارج الرياض، حيث شرف إلى القصر الذى بداخل المدينة، وكانت غاية جلالته من ذلك أن يجلس في القصر الداخلى القريب من سكان الرياض؛ ليكفيهم مشقة التعب في الخروج إلى القصر الآخر النائى عن البلدة، للتشرف بالسلام على جلالته، وفعلاً توافد العلماء ورجال الدين والأعيان على ذلك القصر وتدفقوا للسلام على جلالته هناك، وظل جلالته في ذلك القصر إلى الظهر، ثم غادره قاصدًا روضة الخفس. أما الرفاق، فقد قضى أكثرهم ذلك اليوم بداخل مدينة الرياض، بين التجول في أسواقها، وشراء ما وقعت عليه أنظارهم من الحاجيات والتحف النفيسة، وبين تبادل الزيارة مع من لهم من الأصدقاء والمحبين هناك.

نبق وجرجير وأحلام

كان الشيخ عبدالرحمن الطبيشي، رئيس الخاصة الملكية، قد وجه دعوة إلى الوفود لتناول طعام العشاء في داره في هذه الليلة، فخرجنا إلى ضاحية خصبة عامرة بالبساتين والحدائق تسمى «البديعة»، تقع على مسافة ثلاثة أميال من الرياض، وجدنا من صاحب الدار ترحيبًا واحتفالا وإيناسًا، وفي الدار حديقة غناء، هى روضة من رياض الأنس، تفرق الرفاق تحت خمائلها.

ومن أبرز ما شاهدناه من الثمر في حدائق البديعة هو ثمر النبق، وهو يختلف عن نظائره في الحجاز ومصر، بما يمتاز به من كبر الحجم، وحلاوة الطعم ولذة النكهة، ثم رأينا هناك «شجر» الجرجير، وهذه الخضر مشهورة في مصر وغير معروفة فى الحجاز، وهى عادة تنبت فى حجم صغير، وقد لفت نظرى وجودها في نجد، وأنها تكبر في شجيرات ترتفع إلى متر وأكثر من متر. وبعد صلاة المغرب قصدنا دار مضيفنا سعادة، الشيخ عبد الرحمن الطبيشى، فتناولنا طعام العشاء على مائدة فخمة أنيقة، وبعد تناول القهوة كالمعتاد عاد الرفاق إلى منازلهم ينتظرون الصباح بجفون مسلوبة الكرى.

حضرة صاحب الجلالة كان قد أصدر أمره لهم بأن تتصل الوقود جميعها بأهليهم في مكة وجدة بطريق التليفون اللاسلكي، وكان الميعاد الذي حددته إدارة اللاسلكي هو الساعة الرابعة قبل الظهر يوم الجمعة -غدًا- لنتصل بأهلينا فى مكة وجدة، ولهذا فقد كان الرفاق يبيتون تلك الليلة وأهدابهم معقودة باللاسلكي، يرون من خلاله الرؤى المتنوعة والأحلام الطريفة، ينتظرون تباشير الصباح للاتصال بأهاليهم.