تعلّقتُ زمنًا طويلًا بفيلم (Hiroshima Mon Amour)، وتمكَّنَ من الذاكرةِ حتى صَارَ يَحضر بلا استدعاء، بل صارَ مرادفًا لقولهم: «حُفِظَ عن ظَهرِ قَلب».

ولمَّا أردتُ أن أختبرَ مقولةً في ذهني متوقدة هي: «الحبُّ شيءٌ خرافيٌّ، يتفتّت إلى أجزاء حتى يُمحى»؛ انتقيتُ هذا الفيلم لأبحث عَمَّا يَقلِب الظَهرَ إلى خَفاءٍ يُزلزِل حبَّه في صدري، ويحوله إلى كومةٍ من «قُمامة»، فعرضتُه على شَابٍ مُبهرٍ أعرفه -بسنِ العِشرين ولا يؤمن بالحب- لأستعيرَ منه التجاوزَ الاستثنائي، وغير المقيّد..! أرسلتُ إليه الفيلمَ وطلبتُ منه أن يُدوِّنَ رأيَه في رسالةٍ «ورقيّة» بخطِ يده الجميل. قال: «سأكتُبها لك بعينٍ لا أعرفها..!». اندهشتُ وانتظرتُ بقلبٍ فارغٍ إلا من رسالتِه.

بعدها بأيامٍ معدودات، قابلتُه في مقهى مجاور لكليّته العلميّة التي سيدخلها لأول مرة، تعمدتُّ أن اختارَ المكانَ والزمانَ؛ لأوثِقَ شيئًا عن الرسالةِ ورأيَ صاحبها (الزمكاني)، سلَّمني الورقات، وذهبَ إلى كليّته بعد أن شربَ فنجانَ قهوتِه.

فتحتُ الورقات وقرأتُ التالي:

(صديقي أنس: «هل رأيتَ القِطة؟» أو «هل تعلم القطةٌ أنها خالدة؟»، سأزيل دهشتَك من السؤالِ، فربما لم تلاحظ أنَّ قطةً مَرت مرورَ الكرام في الدقائقِ العشرين الأولى من الفيلم، وسطِ دهشةِ سُكّان هيروشيما مما تُسمّيه خرابًا.. لا نعلم أين ذهبت القِطّة ومن أين أتت؟! كانَ كلُ شيء مُهَدَّمًا إلا منها ومن صوتِ البطلةِ وحبيبها، يتحدثان-بخواء- عن (الذاكرة والنسيان)..! ثم قَبل منتصفِ الفيلمِ تعود القِطَّةُ!..

كذلك لا نعلم من أين؟ وكيف قضت وقتَها بين أولِ الفيلم ووسطه؟ عادت وقد تَطوَّر موقعُها، حيث رأيناها -بأعيننا البشرية- بين بطلَيْ الفيلم، تستمع لحوارِهما -الذي نراه فارغًا- عن حُبٍ في وسَطِ خراب، لكن هل يمكن أن نرى الفيلم بعينِ هذه القطة، وخصوصًا أنَّها نظرت إلى (الكاميرا) في الدقيقةِ الثلاثين، ورمشت ثلاثَ رَمشَات دون توجيه المخرج -أظن لأنها هي الوحيدة التي خرجت عن سيطرته في موقع التصوير!- فما معنى هذه الثلاث رمشات؟..

انتظرتُ -بملل- حتى جاءت الدقيقةُ التاسعة والأربعون، حين تحدثت البطلةُ عن معاناتِها -أثناء الحرب العالمية- في بلادها الأوروبية، قالت -فيما قالت من الخواء- «إنَّ القبو الذي اختبأتُ فيه مهترئٌ ورطبٌ ومليء بالحشرات، لكنّ (القِطط) ظَلَّت تحوم حوله، خالدة»، ثم جاءَ المشهد الغريبُ: (البطلة أمام قطة سوداء، تنظران لبعضهما، والقِطّة مستكنّة في زاويةٍ، وأزعم أنَّ المخرج يٌحاول-عبثا- أن يُظهِر عليها آثارَ الطمأنينة، كأنَّها تتشفّى من البطلة!) هل القطَة البيضاء تحوّلت إلى سوداء؟ أم هي قطة أخرى بما أنهما في بلدٍ آخر؟! الإجابة تهمني لأنَّ القطة هي العنصر الحقيقي في الفيلم، ثمة مشكلة لا أعرف جوهرها، وهي أننا نفقأ عينَ القِطّة، ثم نُعيرها عيوننا..

يا صديقي مهما قلنا عن هذا التحول سنخون عينَ القطة، لكن سأسألك بما أنك عاشق لهذا الفيلم: هل المخرج يريد أن يُخلِّد القطة؟ أم يتحدث عن مفهوم الخلود في عقله البشري، ويُسقِطه على القِطَط؟ أم هو يهذي كموجةِ جيلِه السينمائية التي تُسمَّى جديدة؟ يا لها من قديمةٍ الآن!، كيف لنا أن نَعرِف عينَ القطة؟ أليست الحيوانات تَشترك معنا في رؤيةِ الأشياء، لكنَّها تراها بشكلٍ مختلف؛ لأنَّ أجسادها تختلف عن أجسادنا؟!..

خطر في بالي أن آخذ الفيلم؛ لأعرضه على قِطط اليابان، وأسألهنَّ عن حفيدات هذه الجَدة التي شَهِدت الأحداثَ بقلبٍ غيرِ مبالٍ، أريد أن أقول لهنَّ: هل تتذكّرنَ شيئًا، فالمخرج أخذَ يهذي عن الذاكرة بحضرة جدتكنّ الموقرة؟ ما معنى رَمَشَاتِ جدتكنَّ؟ هل عليكنّ علاماتٍ جسديَّة من آثارِ النووي؟! وما مستقبلكنّ السيكولوجي بعد القنبلة؟ ماذا أرادت جدتكنَّ من حركاتِها البهلوانيّة في وسطِ الخراب..؟ ماذا سمعت الجَدَّة، وكيف؟!، وما أدراك! ربما ستستنكر عليَّ القططُ أنه خرابٌ!، وحينها كيف نُثبِت لهنًّ أنَّه خراب؟ ها هي القِطةُ التي يَمنُّ عليها المخرج بالخلود تَرقص -رغما عنه- في الفيلم، أليسَ مدرسُ العلومِ قال لنا في المدرسة: «إنَّ الحيوانات تتنبأ بالكوارث»؟ أتراه يَكذِب يا صديقي الأكبر مني؟ أو تراه صَادقًا ولكن لا وجودَ لكارثة؟ أو أنَّه يَهذِي بما لا يدري؟..

ألم تُلاحظ أنَّ البطلةَ قالت -والقِطَّة بين يديها-: «يقولون إنَّ هناكَ عاصفةً ستحدث قبل المساء»؟ من هم هؤلاء؟ أم أنَّ الكوارث التي يصنعها البشر ليست من الطبيعة؟ المشكلة أنكم لو قابلتم حفيدات القِطَّة، ستسألونَهنّ عن مروياتِ جدتهنّ، فإن أخرجنها لكم، سألتموهنّ عن صحةِ الأسانيد؟! وكيف وثًّقنَها؟! ثم المشكلة التالية: هل تسألون حفيدات القِطّة البيضاء أم السوداء؟ هذا هو فيلمك يا صديقي الأكبر مني!!، لا قيمة له إلا إذا خفضنا جناحَ الذُلّ للقِطّة..! وإلا فليذهب فيلمك إلى الجحيم.

ملاحظة: كتبتُ هذه الرسالة قبل قليلٍ من لقائنا، وتوقفتُ؛ لأنَّه حانَ موعدُ الكلية، علمًا بأني أكملتُ هذا الفيلم على مضض، فقط لأنظر ما مصير القطة في عيونِ مخرجك الفلتة؟!. صديقك الأصغر منك: رامي)).