على أننا لا نحتاج أن نذهب بعيدا في التمثيل فإن كتابنا الكريم (القرآن) يعرض من صور الأخلاق ما يكفي للإفصاح عن روحية العربي. ومثله في الحديث النبوي وأخبار الصحابة وأدعية السجاد الإمام زين العابدين وأمثالهم ومؤلفات أدبية لا حصر لها في أدب النفس ومعاني الأخلاق. وقد تمثلت هذه القيم عمليا في قصصنا الشعبي عن سيف بن ذي يزن وعنترة العبسي وأبي زيد الهلالي وأمثالهم من قصص المروءة والبطولة.
ولم تفقد كلمة (أدب) مدلولها الأخلاقي إلا في عصرنا، فنحن اليوم نكاد نصدر في ما نكتب عن المفهوم الغربي للكلمة، حيث تعني كلمة (أدب) Litorature المعلومات والعلم، ولا تتصل بالأخلاق.
ويرجع فصل الغربيين بين الأدب والأخلاق إلى عهود قديمة فنحن نجد في مذهب أرسطو الذي أدرجه في كتابه عن الشعر (Poetics) أن جمال الأدب لا يستند إلى الأخلاقية، وإنما هو معنى منعزل لا شأن له بأية قيمة خارجية، ومن السائغ عند أرسطو أن يكون الأدب جميلا كل الجمال حتى وهو غير أخلاقي، فلا دخل للمبادئ والمثل في الأدب.
وقد سيطر هذا المذهب على الفكر الأوروبي فبقي يتحدر من صفحة إلى صفحة عبر تاريخ الأدب والنقد وممن أسنده وأضاف إليه الناقد الألماني ليسنج. ولسنا ننكر أن طائفة صغيرة من مفكري الغرب قد رفضوا هذا المذهب ودعوا إلى ما يقرب من المفهوم العربي، ومن هؤلاء الشاعر هوراس (HORACE) والناقد الإنجليزي فيليب سيدني والشاعر الألماني فريدريك شللر (P. SCHILER) إلا أن هذه الأصوات تاهت في خضم الفكر المادي فلم تؤثر تأثيرا محسوسا، وبقيت الصورة الثابتة لآداب الغرب منفصلة عن الأخلاق حتى قال الفيلسوف المعاصر بنيديتو كروتشه نصا (لا شأن للأخلاق في الأدب) وهذا الحكم يعبر أفصح تعبير عن تيار التبذل والتحلل في أدب أوروبا اليوم.
وتمتد جذور هذا التيار إلى القرن التاسع عشر وقد بالغ في الدعوة إليه أنصار المذهب الطبيعي الذين جعلوا
واجب الأديب أن يصف كل ما يقع للإنسان دونما اعتبار لقيم الأخلاق ومصلحة المجتمع. وحسبنا للتمثيل أن نشير إلى قصة إميل زولا (ZOLA) المعنونة Germinal فقد هبط إلى أدنى مستويات الروح والخلق، فوصف عالما موبوءا تلعب به الغرائز الحيوانية على شكل يلغي الحضارة ويرد الإنسانية إلى عهود الوحشية والبربرية.
وما من شيء يبدو لنا أشد إيلاما من هذا فإن زولا يرتفع في القصة نفسها إلى آفاق عالية من الفن والإبداع، فكأنه يضع فنه وإنسانيته في خدمة التفسخ، ويساهم في قتل الحضارة.
ولقد اقتبس أدباؤنا العرب هذه النظرة إلى الأدب في اتجاهيها السلوكي والجنسي حتى أصبح أدبنا يضم أشنع النماذج في الإنسانية والأخلاق، فالقصاصون المحدثون يصورون في قصصهم أشخاصا يعاملون آباءهم في قسوة وخشونة واحتقار ويرسمون أبطالا يتطاولون على أساتذتهم. وكم في القصائد والقصص من بذاءة وتبذل في اللغة، وقد أصبح نموذج البطل أن يجعله المؤلف كثير السب واللعن، ضيق الصدر، ضعيف الخلق لا يترفع عن شيء. وشاعت صورة البطل المثقف الذي يبصق في الطريق ولا يعترف بأية قيمة للأشياء والأشخاص. وكل هذا مناقض لأدب النفس العربية الذي عرفه تراثنا.
1965*
* شاعرة وكاتبة عراقية «1923 - 2007»