بينما يغرق العالم في موجات متصاعدة من القلق والتوتر، يسطع وجه آخر للإنسانية أكثر إشراقاً مما قد توحي به العناوين القاتمة. فقد كشف تقرير «غالوب» للصحة العاطفية لعام 2025 عن مفارقة إنسانية لافتة: 39% من البالغين حول العالم يعانون من القلق، و37% يعيشون التوتر، ومع ذلك فإن المشاعر الإيجابية تقاوم الانهيار وتظهر صلابة مدهشة. إذ أكد 88% من سكان العالم أنهم عوملوا باحترام خلال يومهم، فيما يواصل 73% الضحك أو الابتسام يومياً رغم الأزمات أي إن 3 من كل 4 بشر في العالم يضحكون كل يوم. هذه ليست مجرد إحصاءات مطمئنة، بل دليل على وجود «بنية تحتية عاطفية» قوية، تمنح الإنسان قدرة استثنائية على الصمود، وتوجه القادة إلى أن تعزيز الإيجابية ليس رفاهية، بل استثمار في استقرار المجتمعات ومرونتها.

مفارقة الأزمات

يصف تقرير «غالوب» عام 2025 بأنه عام المفارقات النفسية الكبرى. فبينما تواصل المؤشرات السلبية ارتفاعها منذ عقد، أثبتت المشاعر الإيجابية أنها أكثر ثباتاً واستقراراً، بل وسجلت في بعض الحالات ارتفاعاً طفيفاً بعد سنوات الجائحة والاضطرابات الجيوسياسية. هذه المفارقة تكشف أن الإنسان، رغم تعرضه للضغوط المتزايدة، لا ينهار عاطفياً بشكل مطلق، بل يبحث عن التوازن النفسي عبر آليات ذاتية وجماعية.


ويرى التقرير أن هذا التعايش بين الألم والصمود ليس غريباً، بل هو تعبير عن «نظام التكيف العميق» الذي طورته البشرية عبر الأزمات. فالمشاعر الإيجابية تعمل كصمام أمان نفسي، يعيد للإنسان اتزانه وسط عالم يزداد اضطراباً.

صمود الإيجابية

تُظهر بيانات «غالوب» أن 73% من البالغين حول العالم يضحكون أو يبتسمون يومياً، و73% يشعرون بالاستمتاع، و72% يقولون إنهم حصلوا على قسط كافٍ من الراحة. هذه النسب حافظت على استقرارها خلال العقد الأخير، بل إن مؤشر «الشعور بالتعلم أو فعل شيء مثير للاهتمام» لا يزال أعلى مما كان عليه قبل عشر سنوات.

هذا الثبات ليس مجرد مصادفة، بل يعكس عمق الجذور النفسية للمشاعر الإيجابية، التي لا تتأثر بسرعة بالصدمات المؤقتة مثل المشاعر السلبية. فالضحك والاستمتاع لا يعكسان فقط لحظات عابرة من البهجة، بل يمثلان موارد نفسية مستدامة تتيح للإنسان التكيف والتجدد أمام الأزمات.

سر المرونة

يفسر علم النفس هذه الظاهرة بما يُعرف بـ«نظرية التوسع والبناء» للمشاعر الإيجابية. فبينما تضيق المشاعر السلبية دائرة الوعي وتستهلك طاقة التفكير، تفتح الإيجابية آفاق الإبداع والتركيز، وتدفع الإنسان إلى التعلم، وبناء العلاقات، واستحداث حلول جديدة.

الضحك والاحترام والاستمتاع لا يمنحون لحظة سعادة مؤقتة فحسب، بل يكوّنون «رصيداً عاطفياً» طويل الأمد يساعد الأفراد على تجاوز الأزمات. إنها منظومة ذهنية تبني المرونة النفسية خطوة بخطوة، وتخلق حلقة تفاعلية من النمو الشخصي والاجتماعي، حيث تولد المشاعر الإيجابية فرصاً جديدة للتكيف، فيتضاعف أثرها عبر الزمن.

ثقافات الفرح

المرونة العاطفية ليست فردية فقط، بل مجتمعية أيضاً. فالدول التي تشجع ثقافة الفرح والانتماء تُظهر مؤشرات إيجابية أعلى بكثير. تتصدر الدنمارك القائمة بنسبة 93% من سكانها يشعرون بالاستمتاع يومياً، تليها باراغواي وإندونيسيا والمكسيك وغواتيمالا وبنما.

هذه النتائج تكشف أن الثراء المادي ليس وحده طريق السعادة، بل الثقافة الاجتماعية التي تمنح الإنسان شعوراً بالتقدير والمشاركة. فالمجتمعات التي تثمن الضحك والاحترام وتدعم الروابط الإنسانية القوية تخلق «مناخاً عاطفياً آمناً» يحميها في أوقات الأزمات، حتى لو كانت مواردها الاقتصادية محدودة.

رسالة استراتيجية

يحمل التقرير رسالة استراتيجية لصناع القرار مفادها أن الصحة العاطفية الإيجابية يجب أن تُعامل كقضية وطنية. فالمجتمعات التي يشعر أفرادها بالاحترام والفرح والاستمتاع أكثر قدرة على الصمود وأقل عرضة للتوتر والانقسام.

وعليه، فإن دعم الفعاليات الثقافية، والفنون، والمساحات العامة للتفاعل الإنساني، وتعزيز قيم الاحترام والتقدير، ليست برامج ترفيهية، بل استثمارات في «المناعة النفسية الوطنية». فالقوة الناعمة للمشاعر الإيجابية قادرة على ما لا تفعله الجدران الصلبة أو السياسات القسرية: أن تُعيد للإنسان توازنه وثقته في العالم.

88 % من الناس شعروا بالاحترام – من أعلى النسب عالمياً

73 % من البالغين يضحكون أو يبتسمون يومياً

73 % يشعرون بالاستمتاع يومياً

93 % نسبة الاستمتاع في الدنمارك – الأعلى عالمياً

الثقافة عامل حاسم: دول أمريكا اللاتينية وإندونيسيا في الصدارة

نظرية «التوسع والبناء»: المشاعر الإيجابية تبني المرونة النفسية المستدامة