يُروى أنَّ «عليَّ بن الحسين» رأى سهيلَ ابن أبي صالح يجيء إلى (فرجة) عند قبر أحد الصالحين فيدخل فيها ويدعو. الفرجة هي الكوّة في الجدار، ويمكن أن يُجعل مقابلها لفظ (niche) في اللغةِ الأجنبية، ويُريدون به -على ما أزعم- مكانًا صغيرًا مخصصًا لشيءٍ ما، ويبدو أنَّ المصريين استخدموا «النيش» بهذا المعنى الغربي وهو -عندهم- دولاب زجاجي تُعرض فيه القطع الثمينة والأنيقة. لفظ النيش دخل إلى عالم العطور -في السبعينيات- ردة فعلٍ على هيمنة الروائح السوقيّة الموحدة، ولعلَّ من أدخله يريد وضع فرجة صغيرة مخصّصة لناسٍ كسهيل ابن أبي صالح، فُرجة يُستعاد بها حرية العطّار الذي يُحب تجريبَ صناعة عطورٍ ليست ملزمة بإرضاء الجماهير، وكان من الطبيعي -بناءً على ذلك- أن تكون النتيجة هي الندرة (محدودية الإنتاج، وقلة التوزيع، والزبائن الخاصين). ويبدو أنَّه مع مرور السنوات سَمِنَت الفكرةُ حتى انفجرت، فما إن بدأ مفهوم النيش يحظى بالاهتمام العام حتى اغتالته يدُ السوق، وكأنَّ كوةَ سهيل ابن أبي صالح اكتُشِفت من قِبل الجماعات الدينية فوسّعوها حتى صارت بحجمِ الغرفة نفسها، ويبدو أنَّ ذلك ما جرى حين اشترت المجموعات التجارية الكبرى بعضَ دور النيش ووسّعت إنتاجها، وحمّلتها قصصًا أدبية ثم أعادت توزيعها على نطاقٍ عالمي فكأنَّك يا زيد ما غزيت. والسؤال: هل النيش بقي نيشًا حين أنتِج بكميات كثيرة، وصارت روائحَه عامةً بين الجماهير؟ وهل الندرة تظل (ندرة) حين يستخدمها السوقُ إستراتيجيةً للتسويق؟ أظنُّ أن هذا السؤال يمكن أن يختصر مفارقةَ تاريخ النيش، ويكشف السر الذي يجعل مفهوم النيش غير ثابت، وبلا دلالة قاطعة. ومن هنا يمكن أن تقول المقالة: إنَّ النيش محاولة دائمة لحماية المسافة التي يتكون فيها العطر -أو أي فن- من ضغط السوق، محاولةٌ لا تستقر على شكلٍ نهائي؛ لأنَّها ولدت -قديمًا- من القلق الذي يشعر به المبدع حين يرى صوتَه يذوب بالتماثل.
وتاريخ النيش يذكرنا بتاريخ الكتابة الإبداعية، إذ هي -كالعطور وككوةِ سهيل ابن أبي صالح- تعيش تخمةً وإنتاجًا يتشابه «كتشابه الأوراق في الغابات»، بمحتوى سريعٍ وصاخبٍ يُصمّ الآذان عن صوت فريد، فالكتابة الإبداعية التي كانت تستلذ بكوّة صغيرة -تشتعل بالصبر والزمن البطيء- أصبحت عملية شبه آلية، كلماتها سِلَع في سوقٍ أعمى، ومعانيها كأنَّها (بلاستك) أعيد تَدويره. ويبدو أنَّ السوق فعل فعلته في الكتابة كما فعلها في العطور، والذي يهم المقالة -هنا- أنَّ التغير يمسّ بنية الحسّ لدى الكاتب والقارئ على حدٍ سواء، أعني أنَّ كوّة الكاتب أُعدمت، فوجد نفسَه وسط الضجيج، ولكي يسمعه أيّ أحدٍ من المارّين لابدَّ أن يصرخ مثلَ الناس، أن يُهمل لغتَه ويُسرِّع إيقاعه وينسخ فكرته من أصواتِ الناس. وهذا ما جعل المقالةَ تلتقط التشابه بين رائحةِ عطر النيش القديم ورائحة الكتابة الهادئة المدهشة، ذلك التشابه الذي يُذكّرنا بأنَّ الندرةَ عملةُ الإبداع، لذلك فإنَّ طرح مفهوم (النيش الكتابي) محاولة مهمة لاستعادة ما ضاع من الكتابة حين فقدت كوّتها التي تحمي الدهشة من الابتذال، وتحمي الكاتبَ من سُرّاق المعاني في دكاكين الأسواق، لهذا أظنُّ -ظنًا فيه إثم- أنَّ الكتابةَ الإبداعيّة اليوم تُشبه صراعًا تطوريًا بين (الميمات) السريعة والنصوص البطيئة، ونعني بالميم -ما قصده ريتشارد دوكينز- «الوسيلة التي تستخدمها الثقافة لتمرير أفكارها»، والميم لكي ينجح سيحتاج إلى ثلاث خصائص أولها القدرة على الانتشار السريع والكثير، وربما هذا ما يجعل النص القصير المتفق مع اختيارات القارئ ومشاغله العامة تتفوق على النص الذي يُحاك من تجاعيد الزمن والدهشة، وثانيها القدرة على البقاء في الذاكرة الجمعية زمنًا أطول من غيرها، وربما هذا ما يجعل النَّص (الشعاراتي) أطول نفسًا من النَّص المدهش، وثالثها القابلية لأن تُنقل كما هي من عقلٍ إلى آخر بلا ذاتٍ تُعرقل سيرورةَ الأسلوب العام، لهذا أزعم أنَّ الميم كلما كان قصيرًا وبسيطًا وقليلَ التفاصيل نجح في النَّقل بلا عرقلة كاتبٍ مدهش، ولهذا لا تلوم المقالةُ السوقَ حينما يُفضّل الميم الثقافي الخفيف على النَّص الذي ولد من موهبة لاشعورية ذاتية في ابتكار الأفكار وحياكتها، لكنَّ المقالةَ تسأل سؤالًا بريئًا ساذجًا: هل الكتابات النيشيّة سيكون مصيرها مثل الكائنات التي هُزمت في صراع البقاء؟ في هذه اللحظة التي أكتب هذا السطر يقف عصفور على نافذتي فذكرني بحديث أبي فراس الحمداني للحمامة: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة/أيا جارتا هل تشعرين بحالي»، قلتُ للعصفور ساخرًا: لقد بقيتَ أنت يا صديقي وانقرض الديناصور.
التفاتة:
الخلل هو الفرجة بين الشيئين فلا تسدوا الخلل.
وتاريخ النيش يذكرنا بتاريخ الكتابة الإبداعية، إذ هي -كالعطور وككوةِ سهيل ابن أبي صالح- تعيش تخمةً وإنتاجًا يتشابه «كتشابه الأوراق في الغابات»، بمحتوى سريعٍ وصاخبٍ يُصمّ الآذان عن صوت فريد، فالكتابة الإبداعية التي كانت تستلذ بكوّة صغيرة -تشتعل بالصبر والزمن البطيء- أصبحت عملية شبه آلية، كلماتها سِلَع في سوقٍ أعمى، ومعانيها كأنَّها (بلاستك) أعيد تَدويره. ويبدو أنَّ السوق فعل فعلته في الكتابة كما فعلها في العطور، والذي يهم المقالة -هنا- أنَّ التغير يمسّ بنية الحسّ لدى الكاتب والقارئ على حدٍ سواء، أعني أنَّ كوّة الكاتب أُعدمت، فوجد نفسَه وسط الضجيج، ولكي يسمعه أيّ أحدٍ من المارّين لابدَّ أن يصرخ مثلَ الناس، أن يُهمل لغتَه ويُسرِّع إيقاعه وينسخ فكرته من أصواتِ الناس. وهذا ما جعل المقالةَ تلتقط التشابه بين رائحةِ عطر النيش القديم ورائحة الكتابة الهادئة المدهشة، ذلك التشابه الذي يُذكّرنا بأنَّ الندرةَ عملةُ الإبداع، لذلك فإنَّ طرح مفهوم (النيش الكتابي) محاولة مهمة لاستعادة ما ضاع من الكتابة حين فقدت كوّتها التي تحمي الدهشة من الابتذال، وتحمي الكاتبَ من سُرّاق المعاني في دكاكين الأسواق، لهذا أظنُّ -ظنًا فيه إثم- أنَّ الكتابةَ الإبداعيّة اليوم تُشبه صراعًا تطوريًا بين (الميمات) السريعة والنصوص البطيئة، ونعني بالميم -ما قصده ريتشارد دوكينز- «الوسيلة التي تستخدمها الثقافة لتمرير أفكارها»، والميم لكي ينجح سيحتاج إلى ثلاث خصائص أولها القدرة على الانتشار السريع والكثير، وربما هذا ما يجعل النص القصير المتفق مع اختيارات القارئ ومشاغله العامة تتفوق على النص الذي يُحاك من تجاعيد الزمن والدهشة، وثانيها القدرة على البقاء في الذاكرة الجمعية زمنًا أطول من غيرها، وربما هذا ما يجعل النَّص (الشعاراتي) أطول نفسًا من النَّص المدهش، وثالثها القابلية لأن تُنقل كما هي من عقلٍ إلى آخر بلا ذاتٍ تُعرقل سيرورةَ الأسلوب العام، لهذا أزعم أنَّ الميم كلما كان قصيرًا وبسيطًا وقليلَ التفاصيل نجح في النَّقل بلا عرقلة كاتبٍ مدهش، ولهذا لا تلوم المقالةُ السوقَ حينما يُفضّل الميم الثقافي الخفيف على النَّص الذي ولد من موهبة لاشعورية ذاتية في ابتكار الأفكار وحياكتها، لكنَّ المقالةَ تسأل سؤالًا بريئًا ساذجًا: هل الكتابات النيشيّة سيكون مصيرها مثل الكائنات التي هُزمت في صراع البقاء؟ في هذه اللحظة التي أكتب هذا السطر يقف عصفور على نافذتي فذكرني بحديث أبي فراس الحمداني للحمامة: «أقول وقد ناحت بقربي حمامة/أيا جارتا هل تشعرين بحالي»، قلتُ للعصفور ساخرًا: لقد بقيتَ أنت يا صديقي وانقرض الديناصور.
التفاتة:
الخلل هو الفرجة بين الشيئين فلا تسدوا الخلل.