روت الآثار أن المسلمين الذين حجوا مع النبي صلى الله عليه وسلم، في حجة الوداع كانوا ينيفون على مائة ألف فارس، كلهم أو جلهم صحابة مرضي عنهم محمودة سيرتهم، وكان العرب كلهم في ذلك العصر لا يبلغون المليونين، ومجموع الجيوش التي زلزلت عروش الأكاسرة والقياصرة -حينذاك- لم تكن لتزيد بحال من الأحوال على مائة ألف، وهو أعلى رقم تتجمع منه جيوش المسلمين بين الشام والعراق، ومصر وإفريقيا وغيرها من البلدان المفتتحة، ومع ذلك فقد فتحوا أشهر العالم المعمور في أقل من ربع قرن، وذلك كله بالرغم من الفتن التي استحر شرها وتفاقم أمرها بين المسلمين، منذ مقتل عمر بن الخطاب رضي الله عنه إلى أن انتهت -أو كادت- بتنازل الإمام الحسن عن الأمر لمعاوية.

وإني لأتصور ويغرق بي التصور - وأرى هذه الأجناد العظيمة وأولئك الشجعان المغاوير والقواد البارعين - ترى لو لم ينشب بأسهم بينهم في وقائع الجمل وصفّين والحرة، ثم انطلقوا غزاة فاتحين في أنحاء المعمورة، إلى أي حد يمكن أن يقفوا؟ وأي مكان مهما بعد مزاره في الدنيا، لا تبلغه عزائمهم وهممهم البعيدة لو كان أمرهم أمماً، وأهدافهم واحدة وقلوبهم جميعاً؟!

كانوا مائة ألف مقاتل على رحال رثة، وسلاح بال ومطايا فيها هزال وحران وأنضاء.. ومع ذلك فقد أتوا في فعالهم بالعجائب المحيّرة والبطولات الخارقة، وكان منهم رجال يحققون بالفعل أعلى ما بلغه الخيال، من أبطال الخرافات اليونانية والرومانية أمثال هكتور وآخيل وأبطال «بلوتارخوس» وكل ما رددته الأساطير مثالاً خيالياً لا يرام، عملوه في الواقع على غير مثال يحتذى.

وكان هناك روح عظيم به يقتدون وعلى ضوئه يسيرون، وكان هذا الروح أبلغ أثراً وأقوى اجتذاباً من عمود النور، الذي كان يهتدي به بنو إسرائيل في التيه أيام موسى عليه السلام.

إن هذا الروح هو روح محمد عليه أفضل الصلاة والسلام، وكان روحاً مجرداً من كل درن، متعالياً عن كل مطمع، سامياً على كل مثال.

إن تعدد الآلهة لا معنى له عند قياس العقل الصحيح، وإن العدل الصحيح لا يتعدد، ولا يتغير بتعدد الأفراد ومراكزهم من مجتمعاتهم.. إنه سيف «ديمقليس» يجب أن يكون معلقاً بشعرة فوق كل عنق.

إن الناس كلهم إخوان فيما بينهم، وعباد الله على سواء لا يتمايزون، إلا بالتقى والكفاءة والخلق.

إن الإيثار هو الخلق الأوحد، الذي تصقل به الشخصية، وتهذب به حواشي النفس، وبدونه تهوي النفوس إلى أحقر وأقذر قرار.

إن المساواة في الحقوق والواجبات والمسؤوليات، هي القاعدة الأولى في سلم الحضارة البشرية، والمساواة لبساطتها وحقيقتها المنطقية، لا يمكن أن تعلل أو تؤول، أو يذهب بها في غير مذهبها الطبيعي.

إن المدنية الإنسانية أخلاق مُثلى ونفوس عليا، قبل أن تكون بنوداً في نظام، أو وجهاً لقصر، أو مظهراً لأثر، أو تناسقاً في سطحيات المجتمع التافهة البراقة.

أنت حر -كل الحرية- ولكن لهذه الحرية حد رقيق يجب أن تقف عنده، وذلك عندما تصطدم حريتك بحريات الآخرين، حيثما أردت أن تخل بنظام أو تكابر في حق أو «تضر» بمصلحة المجموع.

إن الإسلام أن تسلم وجهك ونفسك لله وحده، وألا تبالي بغيره -مهما كان- في سبيل كلمة حق أو إقراره، أو استهجان باطل والعمل على إزالته.

كذلك كان الإسلام، وعلى سنن من هذا الغرار كان المسلمون، فليس بعجيب أن يحكموا الأرض، وإنما العجيب ألا يحكموها.. وهم جميعاً على رؤوس هذه الشواهق السوامق من الأخلاق والمواهب والحقائق.

كان مجموع جيوشهم المقاتلة في شتى الجهات نحو مائة ألف، وكان العرب عن بكرة أبيهم لا يبلغون مليونين.

أما الآن فإن العرب يناهزون ستين مليوناً، والمسلمون كلهم من شتى الشعوب أكثر من أربعمائة مليون.. ومع ذلك فإن هناك دولة في فلسطين تكونت من القاذورات اليهودية، على مسمع ومبصر من ملايين المسلمين أعرابهم وأعجامهم، وإنه لمصداق عجيب باهر لقوله عليه السلام: غثاء كغثاء السيل من حديث مشهور.