قبل الحديث عن حادثة فتح الأندلس التي تعد من أهم الأحداث التاريخية ذات الأثر الكبير في مسيرة شعوب أوروبا والعالم أجمع، يجب علينا التطرق لقبائل البربر الذين كانوا مادة مهمة في الإستراتيجية الإسلامية القادمة لفتح الأندلس. ولو أخذنا نظرة بانورامية للفتوحات الإسلامية بداية من انطلاق الجيوش من شبه الجزيرة العربية إلى الشام ومصر وبلاد الرافدين وصولا لشمال إفريقيا والمغرب، اتبع المسلمون فيه أسلوبهم في التدرج المرحلي، سنجد أن الشعوب كانت تنضوي تحت الثقافة الجديدة بسرعة فائقة وتمتزج حضاريا بثقافة الفاتحين بشكل لا يمكن أن نعزوه لمبدأ القوة والإكراه.

عملية اكتمال الفتوحات وانضمام البلدان وشعوبها للدولة الإسلامية الجديدة، حدثت في مدة وجيزة للغاية لا مثيل لها في التاريخ، ولا يمكن تفسيرها بالقوة العسكرية المباشرة، أو الرغبة الجامحة في الغزو والغنائم، فالغزو من أجل الغنائم وحسب، يأخذ طابعا عدوانيا يجعل من عملية الاندماج الثقافي متعسرة جدا، فشعوب البربر عاشوا أيام الدولة البيزنطية في عزلة طويلة ولم يتأثروا عقائديا أو حضاريا بالمجتمعات البيزنطية وكانت علاقتهم بالبيزنطيين علاقة عسكرية سطحية، في الجانب الآخر نجد البربر أكثر ميلا للمسلمين وأكثر إخلاصا للعقيدة الإسلامية، لذا نجد قادة بارزين كحسان بن النعمان وعقبة بن نافع قد اهتموا بالجانب التبشيري، بعد أن وجدوا الرغبة والقبول عند السكان، فجندوا مجموعة من الفقهاء وبعثوا بهم إلى أنحاء إفريقيا لنشر الدين الإسلامي واللغة العربية، وهذا أدى بطبيعة الحال إلى خروج البربر من عزلتهم التاريخية وانصهارهم في المجتمع الإسلامي، فقد وجد البربر في تعاليم الإسلام ما ينسجم مع تصورهم الاعتقادي، مما سهل نفوذه في وجدانهم الديني والروحي.

الغزو من أجل تحقيق المكاسب المادية والحصول على الغنائم، يأخذ طابعا عدوانيا كما أسلفنا وغالبا ما يخلف وراءه الخراب والدمار والتشرد والفقر، ولا يستطيع كسب ولاء وإخلاص الشعوب بل يجعلها في حالة تمرد وعصيان مستمرين، ولا يتبع أسلوب التدرج المرحلي في التوسع بقدر ما يتبع أسلوب الغارات المفاجئة في أوقات موسمية وفي أماكن محددة كمواسم الحصاد وقوافل التجارة، ولا يملك ثقافة رفيعة وقيمًا يبشر بها، لذلك أهداف الغزو من أجل الغنائم آنية وعرضية ولا تتبع أسلوب التدرج المرحلي أو التطلعات الإستراتيجية ذات النفس الطويل، ولنقدم غارات الجيوش المغولية لبلاد الرافدين والشام نموذجا واقعيا ومثالا حيا نقارن به. ولنؤكد أنه لا توجد علاقة سببية بين العملية الحربية وبين وجود ثقافة عربية إسلامية في بلاد الرافدين أو المغرب أو بلاد الأندلس.


كان هؤلاء البربر يمثلون الأغلبية العظمى من الجيش الفاتح للأندلس، في جيش يبلغ عدده حوالي 7000 مقاتل بقيادة القائد الشهير طارق بن زياد، وهذا العدد الضئيل جدا من المقاتلين سيثير العديد من الأسئلة لعل أهمها: كيف استطاع حوالي 7000 رجل غزو منطقة مأهولة بالسكان وتحقيق انتصارات ساحقة وفي مدة قياسية لا تتجاوز ثلاث سنوات؟ قبل الإجابة على هذا السؤال الشائك، علينا أن نسلط الضوء على الظروف السياسية والاجتماعية في إسبانيا قبل الفتح الإسلامي، يقول المؤرخ الفرنسي ليفي بروفنسال: «إن الثلاثين سنة التي سبقت الغزو الإسلامي، وهي السنوات العجاف بالنسبة لما نعرفه عن تاريخ إسبانيا القوطية، تبدو لنا في الواقع غاية في الفوضى والاضطراب».

يعود هذا الوضع المضطرب في إسبانيا لهذه الأقلية -القوط- الذين كان تأثيرهم الثقافي ضئيلا للغاية إن لم يكن معدوما في المجتمع الإسباني، فلم يندمجوا مع السكان وإنما شكلوا طبقة أو سلالة عسكرية أجنبية تتسم بالفظاظة وقلة التمدن في تعاملها مع الشعب الإسباني، لذلك ظل الامتزاج الحضاري والثقافي مفقودا.

ومن وجهة نظر المؤرخ الإسباني أغناسيو أولاغوي، فإنه ينفي حدوث استعمار أو احتلال لإسبانيا من طرف المسلمين، حيث يعتبر أن نشأة الحضارة الإسلامية في الأندلس كان نتيجة تقبل الإسبان لها، وفي كتابه «ثورة الإسلام في الغرب» يقول واصفا التواجد العربي في الأندلس: «نجد واضحا لدينا الآن أن التوسع الإسلامي والحضارة العربية في العالم لم تتم بواسطة العمل الحربي، بل من خلال انتشار الأفكار القوية، وقد حدث هذا مع الإسلام كما حدث في حركات مشابهة وقعت في الماضي أو يمكن ملاحظتها في وقتنا الحاضر».