مع كل معرض للكتاب تستجد شجون المثقفين وطلاب العلم والباحثين، وهذا ما يحدث اليوم ونحن على أبواب معرض الرياض الدولي للكتاب، وهو كما تؤكده متابعتي، المعرض الوحيد الذي يحقق نجاحاً نسبياً في المملكة العربية السعودية، أما بقية المعارض في سائر مناطق السعودية فهي ضعيفة من ناحية حجم المشتريات وأعداد الناشرين، ولذلك فهي ضعيفة من حيث الجدوى لأصحاب المكتبات ودور النشر؛ هذا مع أن رُواد هذه المعارض كثيرون جداً؛ لكن عدد المشترين منهم قليل إذا ما قُورِن بنسبة المشترين في أواخر القرن الهجري الماضي، والعشر الأولى من هذا القرن؛ حيث كان الكتاب سلعة تجارية رائجة، وكانت المكتبات تتهافت على المشاركة في المعارض التي كانت تُقام في كثير من مدن المملكة؛ بل كانت تقام في المدارس المتوسطة والثانوية فضلاً عن الجامعات وإدارات التعليم.

أذكر أنني حين كنت مدرساً في المرحلة المتوسطة بمكة نظمت معرضاً للكتاب ضمن النشاط الثقافي وذلك سنة 1408، ووجهت الدعوة لمكتبات مكة المكرمة وحدها، وكانت حرسها الله عامرة بالمكتبات، وكان يتعذر علينا استقبال جميعها لضيق المكان، وفوجئت بأنه يتقدم إلينا مكتبات من جدة والمدينة والطائف، كما تقدمت إلينا مكتبة واحدة من مصر، هذا وهو معرض مدرسة متوسطة، وكنتُ أقول: وماذا يُريد باعة الكتب هؤلاء من أطفال لم يبلغوا الحلم، لكن المفاجأة جاءت من كون الرواد من الطلبة الجامعيين وأساتذة الجامعة ومختلف المثقفين، ولم يكونوا من مكة وحدها، وإنما من جدة والطائف وضواحيهما أيضا، وحقق المعرض على صغره حركة كبيرة في مكة بأسرها، وجاءتنا مطالبات لتحديد يوم للنساء، وبالفعل تم تحديد يوم الخميس، وتولى البيع متطوعون من الطلاب.

ولو أن مدرسة متوسطة أرادت الآن تكرار التجربة، فلن يُكتب لها ذلك النجاح أو معشاره؛ بل أقول: لو أن الجامعة في مكة أرادت تكرار التجربة فربما لن يكتب لها أيضا ذلك النجاح أو معشاره؛ فمكة التي كانت تزخر بالمكتبات لم تعد اليوم تحتوي إلا على خمس مكتبات، وأصحابها يشتكون أيضا من ضعف الإقبال على الشراء، والقراء أقل بكثير ممن كانوا في تلك الفترة، وهذا بالطبع مع أخذ الفارق في عدد السكان بالاعتبار.


لعل قائلاً يقول، إن السبب هو حلول الكتاب الحاسوبي محل الورقي، وهذا سبب صحيح لكنه ليس كل شيء، فحتى أولئك الذين يعمرون أجهزتهم بالكتب الضوئية ليسوا كثيرين؛ وعلى الرغم من أن أكثر الكتب الحاسوبية يُمكن تحميلها مجاناً، إلا أننا حين ندخل إلى أحد مواقع تحميل الكتب المزوَّدَة بعدادات لمرات التحميل، سوف تفاجأ في أكثر الكتب أهمية أن مرات تحميلها لا تتجاوز المئات على الرغم من أن التحميل مفتوح للناطقين بالعربية في كل أنحاء الدنيا، أي لما يقرب من أربعمائة مليون نسمة.

وحين نتحدث عن نهاية القرن الماضي وأوائل هذا القرن، فإننا نقول إن وضع القراءة كان فيها أفضل، لا أننا نقول إنه كان ممتازاً، وحال اليوم سيئاً، لا، بل كان حال الأمس مع كل ما يظهر أنه إطراء منا له سيئاً، وحال اليوم أكثر سوءاً.

المفارقة العجيبة أن حال تأليف الكتب على العكس من قراءتِها، إذ لم نكن نجد بين مئات المثقفين وطلاب العلم إلا واحداً جرَّب التأليف لمرة أو مرتين وعلى استحياء، وكنا ننتظر ما يُصدره كبار العلماء والأدباء وكبار المثقفين، وما توصي به الجامعات من رسائل طلابها للنشر، أما اليوم فالتأليف لا يخضع لأي مقياس علمي أو عمري، فالجميع يؤلفون وينشرون مؤلفاتهم على حسابهم لأن دور النشر تشترط شهرة المؤلف وقوة العنوان، ولذلك فهم في غنى اليوم عن دور النشر، فمنهم من يقوم بتنسيق كتابه ونشره بصيغة ممتازة حاسوبياً، أو طبعه بأعداد قليلة جداً أو الأمرين معاً.

حتى قُراء الأمس سرقتهم الهواتف الذكية من أحضان الكتب وباتوا متابعين للتطبيقات الهاتفية وما يدور فيها من مراسلات، ولما كانت حياة العلم مذاكرته فإن كثيرين ممن أعرفهم من أقراني من المثقفين، ومن هم أسن مني، نسوا كثيراً من العلم الذي تعلمون، ومما لاحظتُه في نسيان العلم أنه يشبه كثيراً مرض نقص الوزن الذي يُبتلى به بعض مرضى السكر وبعض المتقدمين في السن، ووجه الشبه هو الترهل في الاثنين، فمريض نقص الوزن تلحظ عليه ترهلاً في جلده يبدو مشوها بغضون وجهه ويديه وسائر جلده، وكذلك المصاب بنسيان العلم تلاحظ عليه ترهلاً في عقله يصعب معه وصفه بدقة، لكنك ربما تقترب به من الحكم عليه بشيء من البلاهة، وهذه الملاحظة الحقيقية وإن كانت قاسية، إلا أنها مهمة لطلبة العلم كي يحرصوا على مذاكرة علمهم وتجديده، فإن البئر التي لا تسقيها الشعاب ولا تنزحها الدلاء تأسن وتتعفن.

يجب أن يصبح الكتاب سلعة أساسية في حياتنا وتجارةً من أقوى تجاراتنا، إنتاجاً واستهلاكاً واستيراداً وتصديراً؛ والعلاقة بالكتاب كلما زادت تقلص إلى جانبها كثير من العيوب التي يصاب بها الأفراد والمجتمعات، فالمجتمع القارئ مجتمع نشط واع طموح صالح نظيف مسالم لا يعرف الفراغ ولا الأوقات المهدرة، وما أكثر العيوب والأمراض الاجتماعية والنفسية والخلقية وكذلك الأمنية التي تعالجها صفة القراءة حينما تتمكن من الفرد والمجتمع ؛ لهذا فإن وزارة الثقافة يجب أن تكون إحدى أهم أو لنقل أهم الوزارات في البلاد، ولكن ذلك لن يكون لها إلا إذا حملت على عاتقها عبء تنفيذ خطة بعيدة المدى لجعل الكتاب خير جليس لكل مواطن ومقيم في بلادنا، وجعل المكتبة ركناً لا تخطئه العين في كل بيوت بلادنا.

ولن أختم المقال قبل أن أحيي طائفة من الشباب رأيتهم متمسكين بعلاقة متميزة مع الكتب صامدين معها في وجه كل الصوارف التي أنتجتها الاتصالات المعاصرة ليثبتوا لكل مجادل أن الكتاب لا يزال وسوف يظل الخيار الأفضل والأوفى لكل إنسان بشرط واحد وهو توفر العزيمة التي لا يمكن كسب وده إلا بها.