ذلك الرجل الذي اشتهر بأزيائه العجيبة كعجب صياغاته المعرفية واللغوية، وحرسه المدجج بالنساء الثقات المسلحات، وكتابه «الأخضر» الذي حسبه نموذجا بديلا عن الاشتراكية التقليدية والرأسمالية الرعناء، مع بضعة اجتهادات إسلامية، رآها على غير ما رآها غيره، ثم بلده الذي سماه «جماهيرية»، وأبى أن ينعته بـ«جمهورية» في رحلة طويلة من الخيلاء، وأوهام فهم الواقع واستشراف المستقبل، لدرجة أن صاحب السلطة المطلقة لم ينفك عن ادعاء أن السلطة برمتها تقع في أيدي آلافٍ ممن أسماهم «لجانا شعبية»، ومرورا بأزمة «لوكربي»، وما تبعها من جملة العقوبات، إلى القبول بتسليم المتهمين ودفع المليارات، لتعويض أسر الضحايا.
وإن ننسى فلا ننسى آب 2003، عندما أعلن رأس الدولة حينها تخليه عن برنامجه النووي «الطموح»، رغبة منه في نبذ الكراهية وإرساء قواعد التسامح والسلام، على حد وصفه، فسلّم معداته المغلفة التي استقطبت أعين المشاهدين وعدسات المصورين، لتُطوى صفحة تسبقها وتتبعها صفحات من كتب المراهقة والتخبط السياسي العقيم.
وبين ليلة وضحاها، يُطل سيف الإسلام القذافي برأسه على المشهد الليبي، يكتسي بما أكتسى به أبوه، ويرفع عنقه ويمعن بنظراته كما اعتاد أن يفعل من ألهمه القدرة من قبل، في محاولة لإحياء ما انقضى، ورفع مقدار ما هوى، وطَلَبِ تجريب المجرّب والصفح عن المخرَّب، معلنا ترشحه للرئاسة الليبية الموعودة.
قد تكون تلك الخطوة الحالمة رغبة منه في خلط الأوراق، لبعثرة خطى ليبيا الجديدة، أو لتثبيت أن العامل «القذافي» سيبقى رقما حاضرا في أي معادلة ليبية ترى النور، سواء تحت ضوء السلطة أو قرب أطياف قوى الظل، لكن الأهم والأعتى هو ما في جعبة الرجل وقراراته من الحنين إلى الماضي أم التبرؤ منه، فهل سيخلع «القذافي» الجديد جلده، ليستبدل رداء التحضر وقبول الآخر ونقد الذات به؟، وهل سيجرؤ على تحميل والده ذي النهاية المأساوية مسؤولية معاناة شعب قد قاسى بأكمله؟، وهل ستصافح يده أيدي من عملوا على إقصاء وقتل وتشتيت عائلته برمتها أم يضمر في باطنه رغبة الثأر وغريزة الانتقام من خصوم الماضي؟.
ثم كيف سيُبرئ هو نفسه ويبرئه الليبيون من أوزار الماضي - حتى لو أُطلق سراحه وتنعّم بحق الترشح - ومن عقود كان هو فيها جزءا فاعلا وذراعا قاسية ولسانا مدافعا وابنا بارا في كنف نظام استبد في حكمه، وبدد مقدرات وعناصر رخاء شعب رغبت الجغرافيا والجيولوجيا في أن تُسكنه في رغدٍ واسعٍ من العيش؟ّ!.
ثم ماذا سيحمل سيف الإسلام في برنامجه الانتخابي لانتشال ليبيا المثقلة بجراحها، من تحديات الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، وترتيب البيت الداخلي الليبي بعيدا عن الأطراف والمصالح الخارجية؟، ذلك عدا تخليص الليبيين من الدخلاء والمرتزقة الجاثمين على رقعة وطنهم.
بعد كل ما جرى ويجري في المشهد الليبي حتى هذه اللحظة، ومهما تعدد المرشحون لمنصب الرئاسة الليبية القادمة، وسواء اختلفت أو تقاطعت نظراتهم لما يمكن تحقيقه لمصلحة شعبهم، سيبقى الرهان الأكبر يرتكز على الوعي الجمعي الليبي بعيدا عن الفئوية والمحاصصة ونبش قبور الماضي، لبناء ليبيا الواحدة الحرة المستقلة على ترابها الوطني من أقصاه إلى أقصاه.