شدني كثيراً الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام عن إعلان فريق من العلماء بجامعة هارفارد، إنتاج أول روبوتات حية قادرة على التكاثر، ومع معرفتنا بأن مثل هذه التجارب هي في مراحلها الأولية إلا أن مثل هذا النوع من الابتكارات يدعونا إلى التساؤل: لماذا يستطيع العلماء في الدول المتقدمة الوصول إلى اختراقات معرفية مهمة، في حين لا يستطيع آخرون الوصول إلى تلك الابتكارات الكبيرة مع أنهم قد يملكون نفس الشهادات العلمية، وقد يملكون قدرات مادية ومخبرية مشابهة؟

والإجابة في تصوري تكمن في فهمنا لطبيعة المعرفة ومدى القدرة على فهمها فهماً عميقاً. والمقصود بالفهم العميق هو القدرة على استيعاب المعرفة، بحيث يمكن تطبيقها في الواقع والإضافة إليها من خلال البحوث عالية الجودة التي تنتهي بالابتكارات والاختراقات المُدويَّة.

وعلى النقيض من الفهم العميق يوجد الغباء المعرفي، وهو المعرفة المجردة من أجل المعرفة، وضعف القدرة على التطبيق أو الإضافة، وقد يتمكن المختص من الإضافة، ولكنها إضافة هزيلة لا تسمن ولا تغني من جوع، مثل كثير من الأبحاث التي تزدحم بها المجلات العلمية، والهدف من نشرها في أغلب الأحيان الترقية للمراتب الأعلى لمن نشرها.

إن الغباء المعرفي يتجسد في عدم القدرة على الوصول إلى حلول للمشكلات بسبب سطحية الفهم في كثير من الأحيان، وفي أحيان أخرى بسبب عدم الرغبة في الإنجاز، والرضا بالألقاب العظيمة التي حصل عليها المختص، وحواجز وهمية رسخت في الأذهان اجترار الأعذار التي يرددها كثير منهم بضعف الإمكانيات وقلة المخصصات.

ولكي نرسخ الفهم العميق الذي يؤدي للإنجاز المتميز لا بد من الاهتمام ببناء جيل جديد من العلماء من مراحل مبكرة في التعليم، وإكساب هذا الجيل في مراحل التعليم الأولية الميل نحو الابتكار، وتدريبهم على الأنشطة الداعمة للفهم العميق، والبعد عن الأنشطة السطحية التي تركز على ترديد المعلومات، وحفظها واسترجاعها في ورقة الاختبار والحصول على الدرجة وانتهى كل شيء.

نحن بحاجة إلى رؤية موحدة لدى التربويين حول الفهم العميق، وأن الهدف الأساسي من التعلم في مدارسنا هو إكساب الطلاب مهارات القرن الواحد والعشرين التي تتمثل في مهارات البحث العلمي، وحل المشكلات، والتفكير الناقد، والابتكار، ودمج التقنية في التفكير، والبرمجة والخوارزميات، لكل التخصصات وليس للمختصين فقط بالعلوم الطبيعية.

من غير المعقول أن نتخلص من الغباء المعرفي بأساليب قديمة عديمة الجدوى والتي تتعلق بمزيد من التجديد للمناهج، وتلوينها وضمها وحذف بعضها، وإضافة الحديث حول الموضوعات دون الرجوع إلى أساس المشكلة وهم من يدرس المناهج وأقصد المعلمين، وحاجتهم إلى التطوير والتنمية المهنية التي تنتج جيلاً من المعلمين الباحثين القادرين على إكساب الطلاب مهارات الفهم العميق والتي تنتهي بالابتكار.

ومن يدري لعل الروبوتات الجديدة القادرة على التكاثر التي أنتجها علماء هارفارد، تساعد البشرية في إنتاج جيل مفكر مبدع مبتكر، وأن تعالج الغباء المعرفي الذي يعاني منه الكثيرون، عافانا الله وإياكم منه، ودمتم بخير.