«صيد الخاطر» كتاب فريد من نوعه للإمام ابن الجوزي، وهو مجموعة من الخواطر النفسية والفكرية والاجتماعية، انتقى منها المؤلف بعض الأفكار، بل اصطاد منها عدة خواطر قيدها في كتابه، فكانت كالدرر المضيئة تنير درب كل من قرأ ذلك الكتاب النفيس الجميل الذي قل أن نجد مثله في تراثنا العربي والإسلامي.

وفكرة تقييد الخواطر وصيد الأفكار وتدوينها تُعد من أهم الإستراتيجيات التي تحفظ تلك الأفكار من الضياع، وفارس التدوين ومحوره الرئيس هو القلم، تلك الأداة المميزة التي كانت أول الخلق والتي كتبت كل شيء قبل بدء كل شيء.

القلم الذي نحمله لنكتب به ما يجول في خواطرنا، وندون به أفكارنا وإبداعاتنا، وقصائدنا، وأحياناً معاناتنا، وهمومنا، وذكرياتنا، سواءً الجميلة أو المؤلمة أحياناً، ولنقل إن القلم هو رفيق دربنا، وأداتنا التي لا يمكن أن تتهرب عندما نحتاج إليها.

الكثير منا نديمه القلم، ينصت إليه، ويسيل مداده تبعاً لما يجول بخاطره، ليخفف من معاناته، في زمن قل من يستمع إليك، ويجود عليك بنصيحة، أو رأي، فالأغلب لا يريد أن يتورط برأي أو نصيحة، تكون وبالاً عليه، وتؤول الأمور في النهاية إلى عبارة «كله منك أنت السبب ونصيحتك، يا ليتني ما سمعت كلامك».

لذا فإن القلم وطواعيته التي تميزه عن غيره من أدواتنا بكتم السر وعدم البوح، يجعله بالنسبة لنا حبيباً لكل من أراد أن يتحدث حين لا يسمعه أحد، أو قد يسمعه ولا يكتم سره، أو يجعل ما سمعه نقطة ضعف قد يندم على بوحه يوما ما.

القلم حينما يشدو بالمعاناة يعلو صوته في الوجدان، وقد يبكي ببكاء من يمسك به، ويصرخ حينما لا يستطيع الكاتب الصراخ، أو حتى الحديث أحياناً، فهو صديق من لا صديق له.

لذا فلنحمل القلم معنا بكل مكان، ولنشجع أبناءنا أيضاً على حمل القلم، ولندربهم على الكتابة، وتدوين الذكريات والخواطر، فكلما كتب الإنسان أكثر تمرس وأبدع، وصقل مهارته، وتكونت لديه صداقة مع القلم، قد تفضي إلى الإبداع، الذي لا يمكن أن تتكون مهاراته من دون تدريب وممارسة، وصداقة طويلة معه.

ولو لم يجد ابن الجوزي قلماً يدون به خواطره في تلك الليالي التي خط بها قلمه ذلك السفر العظيم، لما وصل إلينا كتاب صيد الخاطر، ولو لم يجد دايم السيف قلماً تلك الليلة لما كتب لنا رائعته التي لا تنسى، وصور المعاناة بقلمه حروفاً وأبياتاً، والتي قال في نهايتها:

وأصور معاناتـي حـروف وأبيـات

يلقى بـهـا راعـــي الـولــع جـاذبـيـه

ولانـي بندمـان عـلـى كــل مـا فـات

أخـذت مـن حـلـو الـزمـان ورديــه

هذي حياتي عشتهـا كيـف ماجـات

آخــذ مـــن أيـامــي وأرد العـطـيـه

فشكراً لك أيها القلم، شكراً لك أيها الوفي، شكراً لك يا صائد الخواطر.