هناك مثل عراقي شعبي يقول: «لو ألعب.. لو أخرّب الملعب»؛ بمعنى أنه لا سبيل سوى المشاركة في اللعبة، لأنه عكس ذلك يعني حَمل المعاول لتهديم المعبد، والأكيد أن أغلب الكتل السياسية المُنضوية تحت مظلة المنظومة الحاكمة، التي ارتكزت عليها الحكومات السابقة في العراق، تؤمن بهذا المثل قولًا وفعلًا، بدليل أن أكثر رموزها اتخذوه منهاجًا وفعلًا للعمل السياسي.

الانقلاب لتغيير مسار العملية السياسية، والذي قاده تحالف (مقتدى الصدر- مسعود بارزاني- محمد الحلبوسي) في مسمّى أُطلق عليه تحالف إنقاذ وطن، ربما تصح عليه تسمية الانقلاب الأبيض على النظام السياسي، الذي كان سائدًا في العراق بحكم التوافقية، وتغييره إلى حكم أغلبية يقود المشهد السياسي الحالي بعد انتخابات تشرين المبكرة التي طالبت بها جموع المتظاهرين في ساحة التحرير. لكن يبدو أن حكومة الأغلبية التي بدأت بتحالف ثلاثي اصطدمت بمعوقات ومعرقلات، خصوصًا بعد أحداث جلسة البرلمان يوم السبت، التي يمكن أن نكتب لها مقدمة بعنوان «إذا لم تكن معي فأنت ضدي»، التي جرت لانتخاب ريبير أحمد مرشح حزب مسعود بارزاني «الديمقراطي الكردستاني» لرئاسة جمهورية العراق حليف مقتدى الصدر في هذا التحالف، وذلك الرفض الكردي من الشريك الآخر في حزب الاتحاد الوطني، الذي كان من أهم الرافضين لترشيح شريكهم لهذا المنصب، والإصرار على برهم صالح مرشحهم، وما عزّز هذا الرفض هو تآزر الإطار التنسيقي الشيعي لترشيح هذه الشخصية، خصوصًا بعد الاتهامات التي وجهها الاتحاد الوطني إلى هذا المرشح عندما كان وزيرًا لداخلية الإقليم من محاولات قمع للحريات، وتخابره مع دول معادية للعراق من وجهة نظر الإطار التنسيقي في مبررات متوازية للأطراف لمنع ترشيح هذه الشخصية.

ويبدو أن معطيات الأمور تؤكد أن الموقف الكردي يحمل الكثير من التأزم، خصوصًا في ظل أزمة اقتصادية خانقة تعصف به، وارتفاع أسعار المشتقات النفطية وتأخر توزيع الرواتب ومحاولات تهديد محافظة السليمانية مقر الاتحاد الوطني «جماعة الرئيس برهم صالح»، بالانفصال عن أربيل واستقلالها إداريًا واقتصاديًا ما قد يُضعف الإقليم الكردي، ويجعله عُرضة للتمزق، وهو ما تخشاه الإدارة الكردية الحاكمة. في كل هذه المعطيات، ربما ستجعل الحزب الديمقراطي يسحب مرشحه من سباق الترشح لرئاسة الجمهورية، واستبداله بشخصية أخرى تُرضي جميع الأطراف المتحالفة والمختلفة معه.

وفي هذا التصاعد والتشابك في المشهد السياسي يبدو أن إستراتيجية الكُرد بدأت مجساتها تُدرك بوجوب تصحيح بوصلة اتجاهاتها السياسية، وإعادة تموضعها في التحالفات، خصوصًا بعد الرسائل الإيرانية شديدة اللهجة التي أوصلتها إلى الطرف الكردي من خلال الصواريخ التي دكّت مواقع في الإقليم، يُعتقد أنها مراكز للموساد الإسرائيلي.

والحديث عن إمكانية تكرار ذلك القصف دون النظر إلى العواقب الوخيمة الذي يحدثه ذلك الهجوم على الإقليم أرضًا وشعبًا، قد تُرجح أن يُعيد مسعود بارزاني تفكيره بقضية التحالف الثلاثي مع الصدر ويضعه في موقف المتهيء بانتظار فرصة الخروج من هذا التحالف.

بالنسبة للحلبوسي، وبعد أن ضَمن منصب رئاسة البرلمان، أنه هو الآخر ربما يُعيد حساباته في التحالف الثلاثي، خصوصًا بعد الزيارة المرتقبة إلى إيران وإمكانية استلامه رسالة (ترهيب وترغيب) بخصوص تحالفاته والرضوخ وعدم السباحة عكس التيار، في كل الأحوال قد تجتمع هذه الأسباب لتجعل من هذا التحالف عُرضة للتفكك والانسحابات، ما قد تجعل الصدر يكون وحيدًا في المواجهة مع الآخرين.

في خضم كل هذا المشهد السياسي المرتبك والفوضوي سيجد مقتدى الصدر نفسه وحيدًا في ساحة المواجهة أمام الطرف الآخر «الإطار التنسيقي الشيعي وشركاه»، لكنه بالمقابل يمتلك مفاتيح كثيرة لأقفال قد يلج أي باب يفتح أقفاله في سيناريوهات متعددة، منها أن مقتدى الصدر يمتلك القاعدة الجماهيرية الأوسع شعبيًا التي يمكنه استنهاضها وتحريك الشارع في مواجهة خصومه السياسيين وأعداء مشروعه، أو قد يذهب إلى المعارضة للحكومة التي سيشكلها الطرف الآخر، وهو اليقين الذي لا يمكن لأي عاقل تجاهله أن الحكومة المستقبلية التي سوف تتشكّل بمعارضة صدرية لن تستمر أكثر من أشهر معدودة حتى تسقط بالضربة السياسية، أو بقوة الشارع العراقي وشعبية الصدر في الأحياء الفقيرة، التي تنتظر الشرارة لإعلان الانتفاضة على من يعتقدون أنهم السبب في إفقارهم وبؤسهم، أو قد يكون حلّ البرلمان وإجراء انتخابات مبكرة كسيناريو آخر للمشهد، لكنه اختيار يُعيد الأوضاع إلى المربع الأول بسبب التوقعات بتّدني نسب المشاركة إلى أقل ما كانت عليه في انتخابات تشرين. إضافة إلى احتمالية التزوير القائمة وعدم حصول الكتل على المقاعد التي حصلت عليها في هذه الانتخابات، وما يرافق ذلك من فوضى وإرباك سياسي تحمله إعادة الانتخابات.

أما السيناريو الأخير فهو العودة إلى حكومة توافقية كسابقاتها، وهو ما قد يُضعف شعبية الصدر وعدم تحقيق الأهداف التي وعد بها جمهوره. في كل الأحوال فإن أي سيناريو سيكون جاهزًا للتطبيق هو الأكثر مرارةً وعلقمًا وسوادًا في بلد تتقاذفه أمواج السياسة المجنونة، وهي في الحقيقة ليست سياسة وحالة لا يمكن تعريفها، وفي أي خانة يتم استقطابها..

ابحثوا في قواميس السياسة وأروقتها وأخبرونا.. هل هناك توصيف لما يحدث في العراق؟.