مرّت أيام من ذكرى رحيل رائدة الشعر الحديث في عالمنا العربي الشاعرة والناقدة نازك الملائكة في 20 حزيران. لا أنوي الوقوف عند محطاتها الشعرية، والنقدية، التي لاقت اهتماماً بحثياً واسعاً في بحار الأدب العربي، لما أحدثته من أمواج حرّكتْ فيها سواكنَ الشّعر كما قال عنها الناقد والدكتور عبدالله الغذامي إنّها: (أنّثت القصيدة العربية) بعد فحولة الشعر الطويلة.

فهذه التغييرات التي فعلتها الشاعرة الناقدة في جسد وروح القصيدة، لم تكن بسبب المرحلة التي عاشتها فحسب، بل بحسب ظني، لتغيّر رؤيتها عن العالم، والكون، وهذا ما سنلاحظه في قصيدتها المطولة (مأساة الحياة) التي ولدت منها قصيدتان، وحالة الولادة النادرة هذه في القصائد تداهمُ أغلب الشعراء، الذين يستمرون بمطاردة قصائدهم لسنوات؛ لعدم شعورهم بالرضا عمّا كتبوه، فيقول الشاعر والناقد علي العلاق: (وقد يلجأ بعض الشعراء، كما فعل سركون بولص مثلاً، إلى كتابة قصيدة له مرة أخرى ــــــ من القصيدة الأولى ــــ وفي أفق رؤيوي مغاير.

وأذكر في السياق ذاته، أنني عشتُ هذه التجربة في قصيدة «تخطيطات في دفاتر ابن زريق الواسطي» التي أعدتُ كتابتها ضمن قصيدة أخرى، بدوافع دلالية وجمالية مختلفة). وكذلك نازك عاشت بقلق عدم الرضا عن قصيدتها المطولة التي نظمتها بين عامي 1945 و1946 وتألفت من ألف ومائتي بيت.

ولأن غاية الشاعرة لا تدرك، فلم تبقِ قصيدتها في صورتها الأولى، وهذا ما صرحت به في تقديمها لأعمالها الشعرية الصادرة عن دار العودة في بيروت عام 1997، وتاريخ التقديم يعود إلى عام 1977. والمجلد الأول من الأعمال خصص لهذه المطولة؛ لأنّها مكتوبة قبل ديوانها الأول والقصيدة عمودية من بحر الخفيف، وقد أعادت الشاعرة كتابتها من جديد بعام 1950 وقلصتها من 1200 إلى 586 بيتاً، وغيّرت عنوانها إلى (أغنية الإنسان)، ففي النسخة المطولة الأولى هيمن عليها جو التشاؤم والبؤس، ولا سيما أنها كتبتها في سنوات شبابها الأولى بمرحلة العاطفة فقط، وما أن انقشعت الغيوم السوداء عن ذاتها، وصارت ترى الحياةَ بوجهٍ جديدٍ، فتقول في ذلك: (بدأت أنظر إلى الحياة بمنظارٍ جديدٍ فيه مسحة من التفاؤل بحيث لا أتحمل أن أستبقي العنوان القديم،) وهذا الأخير العتبة الأولى لسحب القارئ إلى عوالم القصيدة، ومأساة الحياة كانت رحِماً ولّادا، وقد ولدت منه القصيدة مرتين عام 1950 والثانية 1965 وهذه الولادة مرتبطة، برؤية الشاعرة، ووعيها الفكري، والنقدي، فتقول: (كان عليّ أن أبحث عن السعادة فلا أعثر عليها، بينما كنت قد بدأت أدرك أن السعادة ممكنة ولو إلى مدى محدود، فكيف أوفق بين القديم وآرائي الجديدة؟ واستعصَ عليّ الحلّ وقلت لنفسي لا أستطيعُ مواصلة القصيدة ولا بد من تركها.

وكان كذلك إذ توقفت عن النظم وتركتُ القصيدة خمسة عشر عاماً من 1950 ـــ 1965 وكنت خلال هذه السنوات أشعر بالضيق كلّما تذكرتها لأن (مأساة الحياة) كانت أجمل شعري في مرحلتي الأولى، وكانت نسخة عام 1950 أجمل شعري في المرحلة الثانية، وولدت الصورة الثالثة من القصيدة عام 1965 ولسوف يلوح للقارئ أنني أقرب إلى التفاؤل في هذه القصيدة).

بحسب اعتقادي فإن هذه التعديلات في القصيدة ونحتها، لم تأتِ لعدم رضا الشاعرة عنها، بل لوعيها إن قصيدتها يتيمة من الولادة، وصارت تبحثُ عن سياقٍ متكاملٍ لها وفق تصورها، فضلاً عن الدوافع الفكرية، والجمالية، هي التي توقع الشاعر/ الشاعرة بملاحقة قصائده.

ورأي نازك صدر عن شاعرة تجلس في داخلها الناقدة، ولم تستطع إطلاقَ حبال القصيدة إلّا بعد أن أخذت الشكل النهائي لها مثلما رسمته في خيالها.

إن مثل هذه التجارب في إعادة بناء أو مراجعة القصائد من جديد ليست غريبة، لكن الغريب أن يتركها الشاعر وكأنه أدرك غايته الشعرية، فهل سيراجع الشعراء قصائدهم بعد عمرٍ من ولادتها؟؟

* ناقدة عراقية