الدول تُدار بما يُشبه فرقة أوركسترا. لها قائد واحد. يجب على الجميع السير وفق توجيهاته وحركاته وسكناته. خروج أحد العازفين عن النوتة؛ لا يعني الشيء الكثير. خلال ضجيج الموسيقى، لا يمكن ملاحظة تلك الثغرة. المهم في هذه العملية الالتزام والإخلاص في العلاقة مع الآلة. وفي السياسة الأمر كذلك. فخروج علاقة دولة بأخرى عن النص لا يعني القطيعة أو النهاية. بل إن تصحيح المسارات في هذا النوع من العلاقات أمر صحي. ويمنح ذلك مزيداً من الثقة بالطرف الآخر. والثقة تستدعي المصداقية والوضوح. لأن الرياح لا تسير وفق ما تشتهي عاصمة أو أخرى. فالعالم يشهد أقوى أشكال التغيير في النواحي السياسية والاقتصادية. وزمن الهيمنة ولى إلى غير رجعة. والنمط التقليدي السابق في العلاقات بحاجة إلى بدائل مرنة وعصرية. ولا خيار غير ذلك.

في الأيام الماضية تحولت واشنطن وبعض العواصم الغربية إلى مقرات حفلات صاخبة من التخمينات. ووسائل الإعلام أصبحت منصات كبرى لإطلاق التكهنات. وربما التنظير والتمرير. المحور الرئيس الذي يجتمع حوله هؤلاء «زيارة الرئيس الأمريكي للسعودية». وحتى الرئيس نفسه شارك بعض الشيء في جزء مما يحدث. فقد بات جو بايدن صحفيا أي زميل. إذ انبرى لكتابة مقال طويل في الـ«واشنطن بوست» ذائعة الصيت. كان الهدف منه التبرير للرأي العام لماذا سيزور المملكة العربية السعودية. والعنوان كان كذلك. لماذا سأذهب للسعودية. أراد مخاطبة الشعب الأمريكي من إحدى صفحات الصحف- بالمناسبة هذا المقال هو الأول الذي يخطه قلم رئيس أمريكي منذ عهد ريتشارد نيكسون- وذلك له تفسير. ربما يكشف حجم الخلل بين الإدارة الأمريكية والشارع الأمريكي، الذي يذكر رؤيته للسعودية خلال حملته الانتخابية. فقد وجد الشعب الأمريكي نفسه ضحية لمنهجية تزييف؛ فهمناها حينها في المملكة. وصرفنا النظر عنها من منطلق الكبرياء، أو الثقة بالنفس.

قرأت مقال الرئيس الذي انساق تارة وراء الفخر بالإنجازات، وأخرى خلف تصفية الحساب بالغمز واللمز مع سلفه دونالد ترمب. ما يعني لي تأكيد رغبته بإعادة توجيه العلاقات مع المملكة العربية السعودية، كون الرياض حليفا وشريكا استراتيجيا لأكثر من ثمانين عاماً، يلعب دوراً مهماً في القضايا الإقليمية. وفي هذا الصدد قال، «ساعدت المملكة في استعادة الوحدة الخليجية بين دول مجلس التعاون الخليجي، ودعمت الهدنة في اليمن، وتعمل الآن مع الولايات المتحدة الأمريكية للمساعدة في استقرار النفط مع منتجي أوبك الآخرين».

وإن أردنا التعقيب، فيجب القول من باب وضع الأمور في نصابها، إن من حرف بوصلة العلاقات الاستراتيجية التي يسعى لتصويبها مع دولة ذات أهمية كالمملكة، هي الإدارة الحالية التي يترأسها جو بايدن. ومن لم تُراع تحذيرات ومخاوف دول المنطقة من الإرهاب الإيراني هي الإدارة الأمريكية التي يترأسها جو بايدن. ومن صمت عن أذرع الجمهورية الإيرانية في العراق ولبنان وسورية واليمن هي الإدارة الأمريكية التي يترأسها جو بايدن. ومن أخرج إحدى الميليشيات التي تتغذى على التطرف الإيراني– أقصد الحوثي- من قوائم الإرهاب هي الإدارة الأمريكية التي يترأسها جو بايدن. ومن منح إيران قبلة الحياة بإعادة الاتفاق النووي الذي يحقق مكاسب أكبر لطهران هي الإدارة الأمريكية التي يترأسها جو بايدن. وأما بالنسبة للعلاقات الخليجية– الخليجية، فهذا ملف ذو خصوصية لا تعيها لا الإدارة الأمريكية، ولا أروقة صناع القرار في واشنطن والدول الغربية.

أعود للحديث عن الزيارة الرئاسية، وأتصور أن الرئيس سيسمع أكثر مما سيتحدث. وفي طليعة ما سيسمعه، هو إن لم تفكر بلاده بتصحيح مسار النظر إلى ملفات المنطقة؛ وعلى رأسها ملف الإرهاب الإيراني، والتغاضي عن جماعاتها المسلحة المنتشرة؛ فذلك سيجلب لها مزيدا من التعقيد في العلاقة مع الحلفاء، وقد يتم تفسير ذلك بأنها اختارت المعسكر الآخر المناهض لدول الاعتدال في المنطقة.

يسبق ذلك؛ ضرورة أن تتفهم الأهداف الخاصة، والحلفاء الاستراتيجيين؛ لدولة محورية ذات ثقل كالمملكة العربية السعودية، والإيقان بأن الثابت في السياسة السعودية يبقى ثابتاً؛ مهما ارتفعت نبرات التصريحات «المُعلّبة» التي باتت لعبةً مكشوفة للجميع.

في السياسة لا شيء ثابت

إلا التغيير.. وتبدل المواقف.

ورغم ذلك،

حتى وإن جاءونا

مُهرولين.

فلن تأخذ واشنطن؛ إلا ما يمكن إعطاؤها.

قد نعيد لهم صياغة النوتة السياسية.

لا أكثر..

وربما أقل.