حرس الشرف في بعض العواصم لا يغادر المطارات. والبروتوكولات ساخنة. والوزراء المرافقون لا يهدؤون. العالم بأسره يشهد إعادة غربلة في العلاقات. الكثير لجأ بالضرورة لتموضعات جديدة. حتى إن جاز التعبير مع «الأعداء». ومنطقتنا بصرف النظر عن كونها الجزء الأهم في هذا الكون الفسيح، باتت المسرح البارز في احتضان الابتسامات التي تخفي وراءها ما تُخفي. فظروف الأمس ومعطياته ليست كما هي اليوم. الجميع مضطر للجميع. والألوان لم يتبقَ منها إلا اِثنان؛ أبيض و أسود. وإن لم تكُن معي فإنت ضدي دخل حيز التنفيذ.

واليوم حيث أكتب؛ سيفرش السجاد الأحمر، لاستقبال متنافرين اثنين، في عقر دار ألد الأعداء. في طهران اليوم سيجتمع من أسميتهم في العنوان «الأعدقاء الثلاثة»، في محاولة لقسم مفردتي – الأصدقاء والأعداء – على كلمة واحدة. وفي ذلك كناية عن حالة التقارب والندية بينهم في آنٍ واحد، نظير كثير التقاطعات بين تلك العواصم. إلا أنه لكل دولةٍ مصالحها الخاصة. البعض منها كبرى والأخرى ضيقة. ولكل ورقة من أوراق التقارب أو التباعد دورها الوظيفي.

الاجتماع الذي سيعقد في طهران ظاهره البحث عن تسويات سياسية لأزمات المنطقة، وعلى رأسها الأمن الغذائي الذي تهدده أزمة القمح نتيجة الحرب الروسية الأوكرانية. لكن في داخل الأمور ما في داخلها، ووراء الكواليس ما وراءها، وداخل الغرف المغلقة ما بداخلها. فملف حصول موسكو على طائرات إيرانية مسيرة من دون طيار حاضرٌ على الطاولة. ونوايا أنقرة بشن حربٍ في الشمال السوري لكسر عظم قوات سورية الديمقراطية ذات القوام الكردي – العدو التقليدي لتركيا - مفروضة بقوة على اللقاء.

والأهم حسب رأيي أن هذا اللقاء يحمل عدة رسائل للغرب وعلى رأسه الولايات المتحدة الأمريكية. فعلى الرغم من أن الجميع يختلفون في الملف السوري، إلا أن موسكو تريد إثبات أنها برغم الحرب التي تخوضها مع أوكرانيا، لا تزال لاعباً دولياً مؤثرا على مستوى العالم. وإيران تسعى من خلال ذلك، لتظهر بأنها قادرة عبر هذه العلاقة على الالتفاف على العقوبات المفروضة عليها دولياً نظير الملف النووي.

ويجب التذكير بأن روسيا وإيران تشتركان في مواجهة ما يسمى «الهيمنة الأمريكية» على الساحة الدولية، وهذا عامل من عوامل التقارب بين البلدين. أما تركيا فهي تجتهد في تقليب أوراق الحلفاء من باب «الاستعراض والاسترضاء». استعراض ورقة الحليف البديل بوجه العالم الغربي، واسترضاء الدب الروسي في وقتٍ واحد.

قد يتساءل البعض، ما دامت العلاقات بين روسيا وإيران على وجه الخصوص بهذا المستوى من الأهمية؛ لماذا إذن سعت موسكو خلال شهر مارس الماضي، الذي شهد آخر لحظات التفاوض على الملف النووي لعرقلة المفاوضات بين الغرب والجمهورية الإيرانية؟

الجواب: لدى روسيا مبرران في ذلك. الأول: خشيتها من حصول الغرب ودول أوروبا على جزء من حصتها في التجارة البينية، بما يقلص العلاقة الاقتصادية مع إيران في حال تم الوصول إلى تسوية لهذا الملف. والثاني: الرغبة الروسية في كبح جماح الرغبة الإيرانية في الهرولة وراء واشنطن والعالم الغربي للحصول على اتفاق بشأن برنامجها النووي. فترى موسكو في هذا الجانب أن طهران تجاهلتها في وقتٍ مضى حين قبلت بالتفاوض دون النظر في علاقتها مع روسيا الاتحادية التي أسهمت في القفز على العقوبات الاقتصادية المفروضة عليها. ناهيك عن بعض التفاصيل الهامشية التي تفرزها التدخلات الإيرانية في الحرب السورية التي تتولى القوات الروسية إدارتها.

والبعض الآخر قد يفسر ذهاب الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى طهران «الغريم التقليدي» لدول الخليج بأنه أمرٌ يضر بالعلاقة معها – أي دول الخليج -، وأنه في إطار ردٍ جيوسياسي على زيارة الإدارة الأمريكية للشرق الأوسط الأيام الفائته. وهذا غير صحيح. إذ تدرك موسكو ويعي صاحب القرار السياسي الروسي، أن أي زعزعة في ملف العلاقات الخليجية – الروسية، سيحقق هدف الولايات المتحدة الأمريكية، التي تسعى جاهدة لإقصاء روسيا من المنطقة، وهذا بعيداً عن كونه حلماً بعيد المنال في قاموس سيد الكريملين، فإنه ضمن الأسباب التي تجعل الإدارة الروسية حريصة على علاقتها مع دول المنطقة؛ بالإضافة إلى مساهمة دول الخليج في استقرار المنطقة ذات الحساسية والأهمية الخاصة بالنسبة لموسكو والعالم، وقدرتها على ضبط تدفق الطاقة في الأسواق العالمية.

عند هذا الحد يمكنني القول للمرجفين والمرعوبين في ذات الوقت، بأن مثل هذا الاجتماع الثلاثي قد يعطي إشارات بأن ما يجمع هذه الدول أكثر مما يفرقها. لكن هذا غير دقيق بالنظر إلى العلاقة التي يراها البعض تحالفاً بين الثلاثي، وهي في حقيقة الأمر لن تصل إلى هذا المستوى، بل تتوقف عند كونها علاقات ذات طابع منفرد. وفي ذلك فرق كبير من النواحي السياسية.

في نهاية الأمر ومن باب الخبث الصحفي، لا أستطع كتابة كل هذا، دون إبداء الاستغراب من تصريحات منسق الاتصالات الإستراتيجية في مجلس الأمن القومي الأمريكي جون كيربي، الذي عبر عن قلق بلاده من صفقة الطائرات الإيرانية المسيرة، التي يمكن لموسكو أن تستخدمها في الحرب الجارية مع أوكرانيا.

والسؤال.

أولم يرَ أحد في واشنطن؛ تلك الطائرات في سماء المملكة انطلاقاً من قواعد جماعة الحوثي الإيرانية في اليمن.

أو في أيادي الميليشيات الشيعية في العراق.

وميليشيا حزب الله في لبنان.

حاولت البحث عن عذر للرجل وبلاده.

وفي الحقيقة لم أجد أكثر من حقيقة..

أن في قلقهم مأساة.

وفي صمتهم مهزلة.