أراك عصي الدمع شيمتك الصبر *** أما للهوى نهي عليك ولا أمر

نعم «بلى» أنا مشتاق وعندي لوعة *** ولكن مثلي لا يذاع له سر

يا سلام ما هذا الجمال والإبداع يا أبا فراس الحمداني، لقد أنخت ركاب الشعر وملكت زمامه فأصبح فيض قلبك وبوحه طوع بنانك.

نعم إنك عصي الدمع شيمتك الصبر، ولكن هذا أمام الناس وفي أضواء النهار، وما يتجمل به الرجال فوق طاقة أحاسيسها ومشاعرها.

نعم أمام الملأ لا يذاع له سر.. ولكن

إذا الليل أضواني بسطت يد الهوى *** وأذللت دمعا من خلائقه الكبر

تكاد تضيء النار بين جوانحي *** إذا هي أذكتها الصبابة والفكر

ليس مقالي اليوم عن أبي فراس الحمداني ولكن عن الهوى، ولو الهوى هوايا لكتبت مقالات لا تتوقف عنه كهامة عملاقة وشاعر دانت له العبارات.

وأقول «وقد لا يوافقني كثيرون» أحلى ما في الجمال ندرته فإذا زاد أصبح زوده نقص، لكن مع أبي فراس وجمع من الشعراء مثل المتنبئ وبشار بن برد وقيس بن الملوح وزهير بن أبي سلمى، مهما زادت حلاوة شعرهم فإنه يطيب لك فهو سحر متنوع، يتناغم مع كل مفردة من حياة العشاق ومعاناتهم.

وأبو فراس الحمداني لا يمكن أن نذكره دون أن نطل ولو على عجل على بعض سيرته.

هذا الفارس العظيم والشاعر المبدع وتلك السيرة العطرة من يصدق أنها نتاج 36 عاما فقط، فقد ولد عام 932 وتوفي عام 968 ميلادية، وشارك في معارك كثيرة تحت إمرة سيف الدولة الحمداني، وأُسر عدة مرات، استطاع الهرب مرة، ومرة أخرى بقي عدة سنوات في السجن، كان خلالها يعاتب شعرًا سيف الدولة الذي تباطأ في القيام بإنقاذه.

ونترك أبا فراس الحمداني وسيرته وإن عز تركه، ونجول في أحوال عذوبة الهوى وإن تواتر الشعراء وأمعنوا في وصف معاناته ولوعاته وكأن الحب ولد ليشقي البشر. يقول شاعر - بحثت ولم أجد اسمه:

إذا ما رأيت المرء يقتاده الهوى *** فقد ثكلته عند ذاك ثواكله

وقد أشمت الأعداء جهلاً بنفسه *** وقد وجَدَت فيه مقالًا عواذله

ولن ينزع النفس اللجوج عن الهوى *** من الناس إلا فاضل العقل كامله

لقد حسم أمر الهوى بأنه النذير بالويل والألم، وسلام على من يهوى فقد أصبح لا حول له ولا قوة.

يقول المتنبئ:

لا السيف يفعل بي ما أنت فاعله *** ولا لقاء عدوي مثل لقياك

لو بات سهم من الأعداء في كبدي *** ما نال مني ما نالته عيناك

يا لهذا التعبير الساحر الآخاذ، كيف يكتب هؤلاء الشعراء!؟، لا أتخيل أن أحدهم يظل يفكر كيف يعبر، لأنه لو فكر ما ظننت يبدع هكذا، إنها عبقرية مطلقة تأتي كجدول عذب ينطلق بكل نعومة ورقة لينهل منه الضامئون أيًا كانوا، فلا خيارات لا له ولا لهم إلا الانصياع لسحره وروعته.

ومن وصف الهوى ولوعاته إلى تضاد يختاره الشعراء تلقائيًا

نقل فؤادك حيث شئت من الهوى *** ما الحب إلا للحبيب الأول

كم منزل في الأرض يألفه الفتى *** وحنينه أبدا لأول منزل

هذا ما قاله الشاعر أبو تمام، أما الشاعر الأموي أبو الفرج الأصفهاني فيقول:

دع حب أول من كلفت به *** ما الحب إلا للحبيب الآخر

ما قد تولى لا ارتجاع لطيبه *** هل غائب اللذات مثل الحاضر

إن المشيب وقد وفى بمقامه *** أوفى لدي من الشباب الغادر

دنياك يومك دون أمسك فاعتبر *** ما السالف المفقود مثل الغابر

ونتيه في دنيا الشعراء شئنا أم أبينا طالما كنا للجمال نصبو، فالعشق ليس ماديًا فقط بل يضرب أطنابه في كل مكمن حسن وبهاء.

عنترة بن شداد من المغرمين الذين ضربت بهم الأمثال في الوله، فقد كان عبدا لوالده ومولاه شداد وقصته معروفة، لكن هذا الذي أرادوه عبدًا ووصفوه كذلك، والذي عاش العبودية في أرض في ذلك الوقت جافة المناخ والمرعى، قاحلة الحضارة بالمقارنة مع بلاد الشام والعراق، رغم ذلك فعنترة قال الشعر بكل أركان الإبداع وسنن الجمال والرقة، فكيف تسنى له ذلك؟.

إنه الإبداع الفطري والرونق العفوي، ولعنترة ديوان لا تكاد تخلو منه قصيدة لا يذكر فيها عبلة.

يقول عنترة في قصيدته المشهورة التي غناها كبار المطربين، ولا يفوتنا أنها من الشعر الجاهلي:

لا وعينيك وأعظم بالقسم *** وفم عن غرة الصبح ابتسم

لم أنم يا عبل عن عهد الهوى *** من رعى أمرًا عظيمًا لم ينم

اذكري يا عبل أيام الصبا *** إذ كنت أرعى بين عينيك الغنم

وشويهاتك حولي أنَّسُ *** يغترفن الماء من راح السحم

أنا يا عبل عبد في الهوي *** وأنا يا عبل في القرب ابن عم

إن في بردي جسم ناحل *** لو توكأت عليه لنهدم

اطلبي الإيوان أحمله على *** راحتي كسرى وهامات العجم

ويقول في قصيدة أخرى:

يا عبل كم يشجي فؤادي بالنوى *** ويرعني صوت الغراب الأسود

كيف السلو وما سمعت حمائمًا *** ينزلن إلا كنت أول منشد

ولقد حبست الدمع لا بخلا به *** يوم الوداع على رسوم المعهد

وسألت طير الدوح كم مثلي *** شكا بأنينه وحنينه المتردد

ناديته ومدامعي منهلة *** أين الخلي من الشجي المكمد

ويقول في التقريظ «المدح»:

لا يحمل الحقد من تعلو به الرتب *** ولا ينال العلا من طبعه الغضب

ومن يكن عبد قوم لا يخالفهم *** إذا جفوه ويسترضي إذا عتبوا

قد كنت فيما مضى أرعى جمالهمُ *** واليوم أحمي حماهم كلما نكبوا

لله در بني عبس لقد نسلوا *** من الأكارم ما قد تنسل العرب

لئن يعيبوا سوادي فهو لي نسب *** يوم النزال إذا ما فاتني النسب

علو الكعب في فن أو في فكر أو فروسية ليس حكرًا على نسب أو لون، إن يكن عنترة أسود البشرة فقد كان فارسًا مغوارًا باهي الإحساس أبيض الفكر.