عندما بلغ الأربعين عاما تهللت أساريره وأشرق نور وجهه، واستنشق عافية الرشد عميقا، وتذكر قول الله تعالى (حَتَّىٰ إِذَا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَبَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قَالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ) الآية.

طأطأ رأسه قليلاً ومسح على بطنه، وقد ضاق اللباس عليها، ولكنه الاستقرار في داخله أنها وقار الأربعين عاما، يأكل من سفر الموائد والنعم جائعاً كان أو غير ذلك، يتلذذ منها كلما تحن النفس إلى ما تشتهيه.. صحته مستقرة والعافية مشرقة في داخله، فطرة تجول كما هي بين الناس حسب عاداتهم وتقاليدهم المعيشية التي يقتاتون منها، لا يشكو الألم إلا نادرا، وقد جعل الله بينه وبين المصحات عداء وجفاء وثأرا قديما عندما كانت الفرق الطبية تزور المدارس، لإعطاء الطلاب التطعيمات، ولا يملكون سوى الاستسلام بالخوف والبكاء حتى يأخذ الحقنة فتكون نكالاً في ذراعه، وإذا أصابته كحة أو حرارة يتجرع لها دواء الشعب السيد (فيفا دول)، ولا يشتكي من شيء، كلما حلت به وعكة صحية ذهب مهرولا إلى دكاكين الطب فيها من عقاقير العافية، يصفها رجل مبتسم حسب فهمه للمرضى، وقد عبس وبصر حتى استدار إلى رفّ الدواء وجلب ألوانا زاهية من شراب وكبسولات جميلة الشكل تكون كفاحاً للمرض.

هي حصافة وثقافة الوصف عند العرب، عاش في حياته لا يعرف نسبة الكوليسترول، ولا قراءة الضغط ولا الصوديوم ولا هبوط أو إقلاع البنكرياس ولا الفلسفات الحديثة، كلما ارتفع الضغط وصدع قال هذه الشقيقة يشدها بربطة حول رأسه، ونظارة داكنة تجعله في صحة وأناقة، يعود بعدها يركض في الحياة، لا يلقي لها بالا.

صندوق مقفل كما خلقه الله

ودارت الأيام، وبينما هو في حديث مع صديقه الذي أصبح أخصائيا مختبرا يتفنن في التحاليل ويجيد أسماءها وتفاصيلها من كريات الدم الحمراء.. أشار عليه ناصح أمين أن يجري تحليل الدم الشامل، وأعطاه موعدا بالمجان على أن يأتي صائما.. هز برأسه.. تردد وتعوذ من الشيطان، وقال أنا في خير وعافية، قال له لن تخسر شيئا.

عاد إلى بيته ولكن هناك اضطرابا، حل العشاء.. أكل خفيفاً لم ينم ليله إلا قليلا..

ترددا وربكة وخوفا من العواقب، ولكنها العزيمة.. قررت التحليل، أشرقت الشمس، وأكمل ثماني ساعات ونصف، وذهب إلى مختبرات القراءة، وكان الترحاب حاراً.

إنه فريسة عمياء، ساقتها الأقدار تأمل كل شيء وحضرت الممرضة، وكانت البرودة في الأطراف قد دنت.. تنفس عميقا «بسم الله»، وأخذت الممرضة أنبوبين بعد أن وضعت الإبرة في وريده، وشد أسنانه وفتح عينيه وتم سحب العينة، ودع صديقه وأخبره غدا سوف يزوره ويعطيه قراءة الفحص ونتائجه..

من هنا بدأ حياة آخرى وصفحة جديدة في مسيرة حياته، كانت النتائج جيدة ما عدا نتيجة الكوليسترول الضار عالية تفوق التوقعات، أخبره صديقه أن هذا مؤشر خطير ما بينك وبين الجلطات سوى خطوات قليلة.

حل النكد وغطى بظلامه الارتباك.. لا حول ولا قوة إلا بالله.. اتصل بصديقه استشاري في الباطنية، واتصل بطبيب آخر في القلب، كانت هناك تطمينات ولكن الهدوء قد رحل من ساعته، ودخل على طبيب العالم السيد قوقل وكل يرعد ويزبد، وما توصلت إليه آخر الدراسات والعلم ودخل في صراع الوسواس.

وما أن أذن العصر حتى حضرت الدوخة، وجاء في معيتها الدوار، وفي صباح اليوم الثاني بعد أن نام والتنميل في الذراع يأخذ مجراه، المصائب لا تأتي فرادا تنحنح ولبس ملابس الرياضة وذهب يمشي ويهرول، إلا وبدأ ضيق في التنفس.. بسم الله، وصل إلى بيته ووجهه شاحبا.. غسله مرتين، وفي كل مرة يزداد شحوبا.. تعوذ بالله من الشيطان.. بدأ الخناس في الوسوسة وتغير كل شيء.

بدأ يتأمل حياة الناس من حوله وقد ألبستهم الحضارة وغيرت ملامحهم وأرهقت نفوسهم، وقلبت أفكارهم وانتفخت بطونهم وضعفت عزائمهم وبردت عظامهم، واختلفت الأجيال وتفتحت العقول، وتطور العلم وتفنن الأطباء وتعددت المستوصفات وانتشرت المطاعم وتنوعت المشروبات، وأبدعت المصانع بالمأكولات الجاهزة وبدأ التعب وزاد الخمول، وكبرت الكروش وتبطن الأطفال وحلت السمنة في النساء وشاخ الإنسان قبل أوانه.. كلما سمع عن الكوليسترول أنصت مستمعا لوصفة طبية أو علاج سريع وهو في هوس العافية يفكر.

كثرت النصائح من العارفين والمجتهدين والمتطوعين والرياضيين.. كل يدلي بدلوه في تقديم ما عنده من علم وتجربة حتى كاد العقل أن يصادق المجانين راحة من النصح والإرشاد.

إنها النصائح من أفواه الأطباء علما وأطباء التجربة والغفلة والقراءة، وكل من قرأ له علما في ورقة أو كلمات متناثرة في مواقع التواصل الاجتماعي أو حديثا سمعه من وصفة وصفها له عابر سبيل، حتى كادت تجعل الطب الحديث يغلق أبوابه ومدارسه وجامعاته لأنه وقف عاجزا في الوصول إلى هذه التجارب، ومنهم من أفسحت له المجالس وتشنفت له الآذان صاغية في الاستماع، فوافق هواه واطمأنت به نفسه وجعلها وصفة بيمين مغلظة أن فيها الشفاء، ومنهم من دون وصفته في تطبيق مباشر وخلط الحابل بالنابل ومكملاته الغذائية التي يسيل لها لعاب الجوع فنا واحترافا في جلب العافية.

ضج الكون بهم وحار المريض في وصفاتهم، وهناك زمرة قد استيأست نفوسهم فكانوا مذعنين مستسلمين أمام مشارط الطب تخفيفا من كروشهم المنتفخة يجعلها إربا عظة، وعبرة لباقي الأعضاء، وحين تراه بعد القص أو الربط قد غارت عيونه أسفا في وداع محاجرها وكشرت أنيابه وأسنانه فأصبحت عارية لا شي يستر بياضها وأصبح يصرع بين الحين والآخر جوعا قد فتك به.

وكلما أشرقت الشمس ليوم جديد ابتسم أمام الميزان أنه نحو الأناقة يركض بعز الشباب، وهناك من استخدم الطب الرياضي هرولة فأصبحت السيقان تشتكي ألما والمفاصل تصيح من الأربطة وآلامها.

وزمرة آخرى ما بين الأربعين والستين قد تربعوا في المجالس يسردون الحكايات والتجربة بعد أن خاض غمار الحياة يشتكي حتى أفاق من غيبوبة التعب، وأصبح يعطي الوصفات بثقة ويؤكد مقولة (اسأل مجرب ولا تسأل طبيب)، تجده ينهاك عن التمور إلا فردا ويجعلك زاهدا في الحلويات والسكريات، ويأخذك عن الشحوم واللحوم نحو خبز البر والسمك والدجاج وجعل المشروبات عدوك المبين وصال وجال بأضرارها في الكلية والكبد حتى تهللت الأعضاء من شكواه تعبا.

وآخر قد استوى وتنحنح وأدخلك في محلات الخضار حتى لا تكاد تخرج من مزارعها وثمارها إلا وأنت في كامل صحتك وعافيتك وجعل لك شرابا مصفى من زنجبيل وليمون وعسل وقليلا من الخل تأخذه مدة أربعين يوما أو واحدا وعشرين يوما على الريق وقبل المنام وأنت في ذهول العافية.

ومنهم من اتكأ على عصا موسى وسحرها العلمي بأن للعشاء أضرارا وأنه هجر العشاء من أعوام مدبرة حتى كاد جوع العشاء وقرصاته قد ولى وأدبر من قاموس حياته وجعله في الصباح نشيطا كأنه نشط من عقال الكوابيس والتعب.

وتجد أحدهم في الولائم والمناسبات التي تتزين بما لذ وطاب قد عبس وبصر واختار واحتار حتى وجد من أمسك بيمنه وأجلسه على مائدة العافية، وبدأ في الاستواء ونطق الشهادة مرتين وسم بالرحمن وقد أقفل عياداته الطبية وهو في ساعة حداد ولا تراه إلا سبعا ضاريا يلتهم الأخضر واليابس والحار والبارد وكل ما لذ في الطعم وطاب في اللسان، وقد استوى وبدأ في التجشؤ شبعا.. تنحنح وطأطأ رأسه ندما، وقد بلغ مبتغاه ولابد من كفارة لهذه الوليمة تكفر الشحوم واللحوم، والتي جعلت الأمعاء في تمدد وانتفخ كرشه حتى ضاقت ملابسه تحت ثيابه، وأطلق التسليمتين وساعده أحد الواقفين حتى استوى وأصبح يبحث عن الشاهي الأخضر الذي يذيب خطايا الشحوم بدون سكر وحبذا أخضر ممزوجا بنعناع.. كل المجتمعات لا تخلو من هؤلاء.

لا تجعل نفسك محطة لتجارب الآخر قد نفعه الله بدواء تناسب مع جسمه ومكوناته.. وليس بالضرورة أن تجد فيه العافية والصحة لجسمك.

ابتسم أيها الأنيق.. هكذا نعيش في الحياة..!