دراسة جزئيات كل ظاهرة ومعرفة بيئاتها التي نشأت فيها، تُعطي تصورًا واضحًا عما كان يجري في كنه وعمق أي منطلقات فكرية لتلك الظاهرة.

كانت دراسة الظواهر تمتد لسنوات كيما يُحيط بها الدارسون، بيد أن عصر التقنية السريعة جرد دارسات الظواهر من المكوث في الزمان لرصدها، وذلك لتقلص ولتحقق عنصر المكوث الزمني لدى كل أحد من الخاصة والعامة، فأصبحت الظواهر تتشكل وتتفاعل معها الأمم في لحظات بل في ثوان دونما أن تكون لدى أي جهة مسؤولة عن المراجعة أو الرقابة قدرة المنع أو حتى التقليل من تأثيرات تلك الظواهر، التي تميزت بتقليص مكوثها الزمني إلى حدود لم تخطر على ذي بال من بني الإنسانية ممن لم يع ويدرك العصر الذي نعيشه من تقنية لا ندري إلى أين سوف تذهب بنا وتُشكل حياتنا ومجتمعاتنا.

بيد أن هناك مسارات واتجاهات لدى الإنسان لا يمكن أن تؤثر فيه تلك التقنية المعاصرة السريعة من حيث تغييره وقلب حقائقه وعمق تصوراته.

وتلك المسارات والاتجاهات تتمثل في القيم والمبادئ الإنسانية المشتركة، سواءً بحسنها أو قبحها. فقيمة مثل الصدق لا يمكن أن تغير حقيقتها تلك التقنية السريعة ولا أن تؤثر في حقيقتها كقيمة ومبدأ إنساني أخلاقي، وليس للتقنية السريعة أي قدرة للتلاعب في حقيقة الصدق أو كنهه أو مجرد تغيير حقيقته من حيث قبول الإنسانية لها بأن الصدق مبدأ حسن كله، سواءً كان قبل التكليف من حيث بعث وإرسال الرسل والأنبياء أو بعد إرسالهم وبعثهم، ذلك أن حسن الأشياء وقبحها قد كانت ولا تزال مسألة من المسائل الكبرى في علم الاعتقاد والأديان وكذلك في علم أصول الفقه، فقد بحثها العلماء في أبواب الاعتقاد عند حديثهم عن العدل الإلهي، وأما علماء الأصول فقد بحثوها عند حديثهم عن الحكم الشرعي وضوابطه. وهذه المسألة لها تسمية علمية دقيقة صارت لقبًا لها وعرفت بها، وهي مسألة (التحسين التقبيح العقليين)، وهذه المسألة لها طرفا نقيض؛ حيث إن هناك من علماء الاعتقاد والأصول ذهبوا إلى أن العقل الإنساني بما وهبه الله المبدع لهذا الكون من قدرات وكفاءات وصفات التمييزَ بين الأشياء، بسبب أن لديه صفة يملكها دون غيره من المخلوقات، وهي قدرته على تمييز ومعرفة حسن وقبح الأشياء في العموم قبل إرسال وبعث الرسل.

وهذا الاتجاه يمثله علماء العقل الذين نصروه وجعلوه حاكمًا على الأشياء وهم جل علماء المعتزلة رحمة الله عليهم.

وها هنا نكتة مهمة جدًا وهي أننا طوال حياتنا العلمية في مجتمعنا منذ بدايات طلب العلم، كنا نسمع التحذير الشديد من كتب وعلماء المعتزلة، بيد أننا لما تشربنا العلم والمعرفة وخرجنا من بوتقة العلم الشرعي المحلي إلى العلم الشرعي الخلافي غير المحلي، ونظرنا في أقوال علماء العالم الإسلامي سواءً علماء الأزهر أم لدى علماء المغرب، وجدنا أن هناك اتجاهات مختلفة وفهوما متغيرة ورؤى وتصورات تكاد تكون متناقضة مع ما كنا نتشربه محليًا، وعند استماعنا وقراءتنا على علماء الأزهر والمغرب سواء في اللغة أو التفسير أو الاعتقاد أو الفقه، وجدنا مسارات واتجاهات مختلفة فيها علم عميق ومعرفة رصينة، واكتشفنا أن (إن المعتزلة علماء ضلال وبدع ومروق عن جادة السلف وأنه مذهب مخالف للكتاب والسنة) مقولة ممتلئة بالخطأ، تحجب عقل الإنسان عن الإبداع والتميز الذي برع فيه علماء المعتزلة رحمة الله عليهم، وأن هذه المقولة تحمل في مضمونها وطياتها حرمان طالب المعرفة علمًا كثيرًا جدًا، فلو قرأ طالب العلم في سير علماء اللغة لوجد أن أغلبهم كانوا على مذهب المعتزلة، ويكفي أن أذكر عالمًا لغويًا لطالما أحببته وأحببت كتبه، وهو ابن جني ذلك العالم الذي أجاد وأفاد، ولا تزال كتبه تُقرأ وتُشرح إلى يومنا هذا.

وهذه المقولة التي تحذر من كتب المعتزلة وعلماء المعتزلة كانت سببًا عميقًا في تسرب كثير من أطروحات المنهج الفكري المتطرف الذي قادته شرذمة شبيبة لا تحمل علمًا ولا معرفة عميقة، بل كانت تكتنز بأقوال فضفاضة لا تحمل في طياتها أي عمق معرفي سواء كان لغويا أو تفسيريا أو اعتقاديا. فهذا المسار الاعتزالي كان يتبنى (أن العقل لديه قدرة كي يُميز بين الأشياء قبحها وحسنها).

وهناك طرف نقيض لهذا الاتجاه وهو الذي يقول إن التحسين والتقبيح ليسا للعقل فيه مدخل بل إن التحسين والتقبيح يكون من الشرع أي بعد بعث الأنبياء والرسل، فهم الذين يُرشدون البشرية إلى حسن الأشياء وقبحها. لا شك أن هذا القول فيه تكلف شديد بل مناقض لما هو واقع من حيث إن العقل يمكنه معرفة حسن الأشياء وقبحها قبل ورود التشريع.

وهذا القول في حقيقته تكليف بما لا يطاق وهو أمر محال من حيث التشريع الديني كما هو متقرر لدى علماء الأصول، وإن الإلمام بأصول هذه المسائل لحريٌ بأن يُزيل كثيرا من الإشكاليات الفكرية المعاصرة التي أوقعت شباب أمتنا ومجتمعاتنا في حيرة تُحيط بها الفوضى الفكرية التي لا خطام لها، وتتلاطمها قواعد وأصول الشر الكاره للوجود الإنساني من كل جانب.

لذا فإن المبادئ والقيم الإنسانية الراسخة التي ترتبط ارتباطا وثيقا بالوجود الإنساني، لا يمكن أن تؤثر فيها تلك التقنية العصرية السريعة.

بيد أن الإشكالية هي في هذه الشبيبة الجديدة التي وعت وأبصرت وجودها على تلك التقنية العصرية السريعة التي تحسب أن الحياة من دونها تعني الموت والانعزال والتجرد من الإنسانية جمعاء.

فهذه الإشكالية الفكرية العميقة هي التي تحتاج إلى دراسات وتوضيحات وتفكيك لحالتها كي تتضح لها أن الحياة تسير وتتكون وتعيش وتحيا بالقيم الإنسانية الراسخة، وهذا الشعور مفقود ولا يمكن أن تُحسه عبر التقنية السريعة.