هي الجمال الذي يتكون من ثمانية وعشرين حرفا، ليصب بهاء ترتشفه الآذان سماعا، وتستلذ به الأرواح كلمات مقروءة، ويبحر بها خيال المبدعين إبداعا، وتتناولها ذائقة المتذوقين نشوة.

هي العربية، لغة البيان، لغة القرآن، والتي يتحدثها أكثر من 476 مليون شخص، لتكون إحدى أكثر اللغات انتشارا واستخداما في العالم، هي اللغة الساحرة ببلاغتها، وقدرتها على تحفيز الخيال ورسم الجمال، لوحات شعرية ونثرية ببلاغة وفصاحة، تعجز عنها اللغات الأخرى

هي لغة العلم والحكمة والثقافة والجمال، كانت وستبقى محفزة لإنتاج المعارف ونقل الثقافات وربطها ببعضها.

من أجل هذا يجب أن تحترم هذه اللغة وتكرم بيوم عالمي، اعتمدته إدارة الأمم المتحدة، للتواصل العالمي في الثامن عشر من ديسمبر من كل عام، ليكون يوم الاحتفال بلغة الضاد، يحكي عن مكانتها ومآثرها الأدبية والثقافية.

وسط الاحتفال العالمي بيوم اللغة العربية، أتساءل كيف أكرمناها نحن أصحاب الألسن العربية؟ وما مدى تقييمنا لجهودنا لزرع محبتها في قلوب أجيالنا القادمة، ليكون برهم بها فوق برهم باللغات الأخرى؟

للأسف، وبنظرة سريعة لواقع اللغة العربية في المجتمعات العربية، نرى أن الفخر والإعجاب بها يكاد يكون معدوما عند الأجيال الجديدة، إتقانهم إياها، أو بمعنى أصح فهمهم مصطلحاتها – وأنا اقصد مصطلحاتها البسيطة، البعيدة عن عمق اللغة الفصحى – يثير العجب، حيث إن البعض يضطر لتفسير المراد بلغة أجنبية كالإنجليزية أو الفرنسية، كي يفهم ابنه أو ابنته ما يقال! والنتيجة عربية ركيكة تحدثا وكتابة وفهما !

فهل نلقي اللوم على أبنائنا، أم اللوم يقع علينا نحن، في عقوقهم للغتهم الأم وبرهم بلغات غيرها؟

بلا شك أن المسؤول الأول والأخير نحن كأبوين، وكأسر بشكل عام، حيث نحرص على تعليم أبنائنا في مدارس تعتمد اللغة الأجنبية لغة أولى، وتجعل العربية لغة ثانية. وهذا ليس خطأ إن كان للعلم، «فمن عرف لغة الأقوام الأخرى أمن مكرهم» بل هو محبذ وصحي لأطفالنا ومجتمعاتنا، لأنه يساعدهم في الانفتاح على الثقافات الأخرى، واكتساب المرونة واتساع المدارك، والقدرة على الحوار، وقبول الآخر، والتبادل المعرفي، ولكن الخطأ أن تكون هي اللغة المعتمدة بيننا وبينهم، ولغة التخاطب التى نستخدمها في حياتنا اليومية معهم! إلى درجة أنه كلما اتسعت مسافة بعدهم عن لغتهم العربية، زاد فرح أسرهم بهم، وتباهيهم بمهاراتهم في التحدث بلغة مختلفة، بل إن الوضع وصل في بعض المجتمعات، إلى ازدراء الأطفال، وإبعادهم عمن يجيد العربية ويتقنها أكثر من اللغة الأجنبية، وينظرون إليه باعتباره أقل ثقافة وأدنى تحضرا!

فقد الهوية اللغوية مصيبة كبرى ستعاني منها مجتمعاتنا العربية، إن لم ننتبه لها، لأنها مع الوقت ستسحب خلفها الهوية العقدية والثقافية، لتتبخر في وعاء الثقافات المكتسبة، وتنصهر معالمها إلى حد التلاشي، وهذا هو الضعف الذي سيكون له آثار مدمرة، نسأل الله أن يحفظ مجتمعاتنا وأوطاننا منها.

التمسك باللغة هو الوتد، الذي يشد هيكل ثقافة المجتمع ويربطها بقوة بجذورها، فقلما نرى فرنسيًا أو ألمانيًا أو صينيا، أو غيرهم يتحدثون معنا بلغة غير لغتهم، وهذا ما كنا نعاني منه كثيرا، عندما نسافر لبلد أوروبي لا يتحدث أهله الإنجليزية. كثيرا ما تساءلنا باستغراب، لماذا لا يتحدث إلينا الفرنسي، أو الألماني، أو السويسري، بلغة نفهمها، رغم أنه يتحدث الإنجليزية بطلاقة؟، والجواب يجيء من أكثر من شخص: «لماذا لا تتعلمون أنتم لغتي، بما أنكم في بلدي فلابد أن تحترموا لغتي» ! وهذا ما يجب أن ينتقل إلينا كعرب، لأن فقدان اللغة أو ضعفها، هو أول أبواب فقدان الهوية.

نحن شعوب تملك لغة لا يوازي جمالها وبيانها لغة أخرى، وذوو حضارة من أعرق الحضارات، وثقافة جديرة بالاحترام، وهذا ما يجب أن نحافظ عليه، مرددين باعتزاز وافتخار مع «أحمد شوقي»:

«إن الذي ملأ اللغات محاسنا

جعل الجمال وسره في الضاد».