يعيش المرء في هذه الدنيا ميممًا نحو أهداف رسمها، إما في ذهنه وإما كانت أحلامًا، بيد أن صوارف الزمن لم تأتِ على ما يشتهي، إلى ما قبل نهايات تلك الأحلام والأماني. لقد سارت الدنيا التي نراها ونلمسها في ذواتنا ونحسها تلامس قلوبنا على هذا المنوال.

بيد أن إدراك هذه الحقيقة لا يأتي إلا متأخرًا جدًا عند أغلبية البشر الذين عاشوا وبسطوا نفوذهم الجزئي وغير المكتمل على الدنيا، غلابة البشر وداحضة الحجج، ومبدية الحقائق ومرشدة العقول إلى عللها وغائيتها اللامتناهية. فهي المضحكة المبكية، وهي الخافضة الرافعة، وهي الموضحة والمخفية في آن، فعجائبها لا تنتهي وغرائبها حيرت النفس البشرية وأنهكتها.

ومن غرائبها أن ترتبط نهايات الأعوام بالدنيا التي لم تنته بعدُ. فنهاية الأعوام كأنها تمثيلية مصغرة لنهاية الدنيا لو عقلت الروح والنفس البشرية، وكلٌ في انتظار نهايتها إما مؤمنًا بما بعديتها، وإما جاحدًا منكرًا للبعديات والماورائيات، وتلك عوالم لا يمكن الخوض في حقائقها وماهياتها، لأن إدراكها خارج عن نطاق العقول البشرية التي خُلقت بعدما تأسست هذه العوالم التي نراها.

وفي حقائق الإثبات والمنطق الاستدلالي، لا يمكن أن يُدرك اللاحق السابق ويعرف حقائق جزئياتها الماضية وسكناته التي أنقضت، لأنها مضت وتلاشت، فلا قادر على إرجاعها مرة أخرى لمعاينتها ومراقبتها ومعرفة تلك الحقائق والجزئيات، إلا من كون ذلك الماضي وأبدعه، ودون ذلك خرط القتاد.

لا يمكن لأحد إرجاع الماضي ولو لبرهة، فهذه حقيقة مطلقة الإثبات ومسلمة يُقر بها كل البشر دون استثناء، كما هو الموت لا ينكره أحد من البشرية بمختلف مشاربهم وأديانهم وأعراقهم، فهذا الأمر ليس لهذا المخلوق البسيط الذي في حقيقته المكشوفة الحجاب أمامه، أنه لا يملك إلا شيئًا من محيطه وحركته وبعضًا من إدراكاته ووعيه إذا ما كان تركيزه على تلك اللحظات، لأن المخلوق لا يقوى ألا يكون مريضًا، ولا يُحيط ألا يخسر أمواله وسلطانه، ولا يستطيع ألا يكون عقيمًا، ولا يُحيط ألا يكون فقيرًا، تلك التصرفات لا يملكها ولا يحيط بها وتدل على ضعفه وبدايات نهاياته، بيد أنه يترجل محاولًا إخفاء الحقائق اليقينية التي لا يمكن أن تذهب من باطن روحه ومدخلات النفس التي تُحيط بكل حركاته وسكناته.

فإدراك اللازم لا يكون إلا بإدراك الملزوم، وهذه حقيقة منطقية فلسفية، رسختها الإنسانية بعلوم المنطق، وشاركت فيها عقول البشرية جمعاء، وهي أصل الإثبات لدى شيخ الإسلام ابن تيمية، بل هي معنى المنطق الذي أسسه وخالف به المتكلمين والفلاسفة عند تعريفهم للمنطق.

جعل ابن تيمية هذه القاعدة أصلا فهم السياقات والمعاني وأصل الاستدلال الثبوتي. فنهاية العالم لا يمكن إدراكها بيد أننا نُدرك جزءًا من تلك النهايات التي نراها تحدث، فكل شيء له نهاية وهي حقيقة مطلقة الإثبات والزمان والمكان، فهذه العبارة تتألف من لفظة كلية في عمومها، ويقينية في ثبوتها، ودلالتها، ولا يدخلها الاستثناء أو يقيدها قيد أو يخصصها في عمومها أية مخصص.

بيد أننا نُدرك شيئًا من فلسفة ومعاني النهايات، فنحن بني البشر الأحياء الذين لم تأتِ نهاياتهم بعدُ، نُدرك نهاية كل عام إلا أنها نهاية لا تدوم إلا برهةً من الزمن ثم تخطفنا البدايات وكأنها لا تُريد للإنسان أن يقف عند تلك النهايات ويتأمل معانيها، لأن الحياة الدنيا لها مهمة ولديها مراحل وخطط مستقبلية، وليس لديها الوقت الكافي كي تتأمل وُتفكر وتُحلل، فهذا الأمر متروك للمخلوق الذي تحتويه الدنيا، وكأنها تنظر إليه وُتخاطبه وهي ذاهبة ومتنقلة من نهايات كل عام إلى بدايات العام الجديد، إلى أن لديك أيها الإنسان عمل شاق وتحليل ضخم لكل ما مضى.

فأنتِ أيتها الروح مسؤولة مباشرة عن كل قصد تأسس في أعماقك ونتج عنه عمل، لذا فإن ذلك الفرح الذي ينتظره البشر من خلال تلك الدقائق التي بقيت في نهايات كل عام هي حقيقية وناتجة من مشاعر ومعانٍ صادقة لديهم، بيد أنها قد تكون مراوغة إذا ما كانت النفس البشرية لم تتأمل حقيقة معنى النهايات، وأن نهاية كل عام ما هي إلا صورة مصغرة من النهايات الحقيقية والمطلقة التي اعترت وتعتري البشرية منذ بدء الخلق.

فكما أن بدايات كل عام تبدأ بذكر الأحلام والأمنيات من خلال القنوات المتلفزة ومنصات التواصل الاجتماعي، فإنه حريٌ بكل نفس بشرية أن تقف وتتأمل أن نهاية كل عام فيها لمحة عميقة عن أصل النهايات المطلقة التي من خلالها يفنى الإنسان في هذه الحياة الدنيا مما يجعلها تتفكر وتتأمل في كل تصرف ستقدم عليه، فإن كان التصرف شرًا وضارًا بالآخرين وممعنًا في ظلمهم فيتوجب عليها أن تمتنع عن ذلك الفعل ديانةً وإنسانيةً، لأن النهايات المطلقة حتمية، فإن لم يكن هناك رادع نظامي وشرعي يمكن أن يوقف التصرفات الضارة، فإن الحتمية المطلقة المتمثلة في النهايات، ستكون هي الحاكم الأوحد على تلك التصرفات. بيد أن نهايات تلك التصرفات ليست محببة للذات الإنسانية، بل تُحبذ لو أن النفس والروح قد أظهرتا ما بها من خير دفين، كي يتغلب على ذلك الشر الظاهر، فالأصل في كل ذات بشرية أنها طيبة ومحبة للخير، بيد أن الشر يطرأ فيتغلب عليها أحيانًا (كل مولود يولد على الفطرة)، والفطرة الإنسانية هي البذرة الطيبة الممتلئة بالخير.