بعد منتصف عام 2017 نجت دولة بورتوريكو من الإفلاس الذي أعلنه حاكمها لأجل إعادة هيكلة ديونها التي بلغت 70 مليار دولار، وكل هذا كان بسبب أغنية «ديسباسيتو» التي غناها المطربان الشابان «لويس فونسي» و «دادي يانكي»، وذلك بعد أن شهدت دولة بورتوريكو إقبالا سياحيا منقطع النظير للأماكن التي تم تصوير الأغنية بها، وازداد بفضلها الدخل من القطاع السياحي بنسبة 45%.

أتذكر هذا الحدث الفني والاقتصادي لتلك الدولة المغمورة وأنا أشاهد التقاء قمم جبال سروات عسير مع جبال جيندو ومانيبور من أقصى الشرق في كوريا الجنوبية والهند مع جبال أليفاندر من شمال العالم في سويسرا، تمتزج مع فنون جبلية أخرى عربية وعالمية كالمخموس والربوبة والشامان والجوبي وأحيدوس وغيرها الكثير من الإيقاعات والرقصات من أربعة عشر دولة، توزعت في سبع مناطق تراثية في مدينة أبها والقرى المحيطة بها في مهرجان قمم الدولي الثاني الذي شهدته منطقة عسير على مدى أسبوع في يناير المنصرم.

والحق يُقال؛ إن مشهدا راقصا وصوتا صادحا بالموسيقى والغناء في أطرافٍ طال يباسها، هو تصوير حي وحقيقي لما يُقال له (أنسنة المُدن)، وفعلٌ مباشر لتحطيم أصنام الرفض والإقصاء للآخر، والبعد عن اليقين المتخيل عن الرقص الذي ينبعث من احتياج الإنسان الفطري، ومشاركته الطبيعية لمكونات بيئته وأفراد مجتمعه رجالًا ونساء، كبارا وصغار.

لقد كان الرقص في سبعة أيام لغة موحدة بين جنسيات عدة وبين شوارع أبها التي غاب عنها الرقص طويلا وخروجه من القاعات المغلقة للفضاء العام.

لم يكن الأداء المباشر للعروض الأدائية الجبلية في أنحاء عدة هو الحدث الأوحد خلال المهرجان، بل إن برنامجا ثقافيا ضخما صاحب الفعاليات، ضم عددا من الندوات وورش العمل التي قد يتفرع الموضوع الواحد منها لعشرات المحاضرات والمباحث والندوات الجادة. لكن ما كان ينقص هذه الفعاليات التي حضرت معظمها هو قلة الحضور المباشر -وهو أمر معتاد مع الأسف في الفعاليات الثقافية-، وكنت أتمنى على الجهات المنظمة أن يكون بينها وبين الجهات التعليمية بالذات اتفاقا بإحضار طلبة من الجامعات والمدارس وربط حضورهم بساعات تطوعية يحتاجها الطالب في مسيرته الدراسية، أو بتكليفات علمية مختصرة عن المحتوى الثقافي.

وقد يكون في هذا الإجبار فاتحة في أذهان النشء وحياتهم للتذوق الفني أو الثقافي الذي قد يغير مسيرة حياتهم، وقد تحدث الدكتور عبدالله إبراهيم القادم من العراق في إحدى ندوات المهرجان عن أمر مشابه حدث له، حيث كان أداؤه لمسرحية أوديب أثناء دراسته في المرحلة الثانوية سببا لأن يذهب بنفسه حينما أصبح شابا لتلك الجبال التي شهدت هذه الأسطورة الأدبية، وأن يُصبح لاحقا باحثا مختصا في السرد وتاريخه.

في نهاية كل مساء، أتصفح ما يضيفه وزير الثقافة على حسابه الخاص في منصة الانستغرام، وأتنقل كل يوم دون مبالغة بين إضافاته لفعاليات ثقافية متعددة في مناطق مختلفة، بين معارض فنية، أو عروض أدائية، أو أمسيات أدبية، أو فعاليات تتعلق بصناعة السينما أو الطبخ والأزياء.

ما يميز هذا الاستعراض أنه يتعلق بفعاليات تمتد لأيام، وتكاد تركز على مناطق محددة، وتتقيد بمناسبات خاصة، أو بتنظيم من مؤسسات خاصة ينتهي عملها بانتهاء الفعالية. ومع ثراء هذا التنوع وأثره، إلا أنني أتمنى ألا تكون وزارة الثقافة وزارة فعاليات ومهرجانات فقط، بل أن يتحول هذا الاهتمام الكبير بالثقافة، وهذا الفضاء المتاح للإبداع فيها وتناقلها، أن يتحول لفعل مؤسساتي دائم، وبمراكز ثقافية في كل المدن تقدم هذه الفعاليات طيلة العام، بجداول زمنية متجددة، وأسماء ثقافية مهتمة ومتجددة.

كان مهرجان قمم الدولي في عسير فاتحة ملموسة، وحراكا سيبقى أثره الإنساني والفكري في إنسان هذا المكان، وفي من شارك وعرف هذه القمة من الدول الأخرى، نأمل أن يكون فعلا ثقافيا مستمرا على هذه القمم، فعلا مؤدى بالأجساد والتعليم والبحث.