حديثنا اليوم عن ظاهرة اجتماعية تفشت مؤخرا في المجتمع قسريا وأصبحت كالحاجة ماسة لا يمكن العيش بدونها, مع أنها لا تقوم إلا على استهلاك الكماليات. إنها ظاهرة "القطة" ويدلعونها "القطية" وهي لفظة شعبية معاصرة لا يوجد لها مرادف في كتب التراث العربي ولا في المعاجم المعيارية للغة العربية, فظاهرة "القطية" تبدو خارجة عن سياق الثقافة العربية. وخارجة عن سياق ثقافة جيل الطيبين -كما يسمى- جيل آباءنا وأجدانا. فظاهرة "القطة" تكاد تكون معدومة في حياتهم اليومية، ليس لأن تكاليف الحياة في زمن الطيبين أقل ثقلا ولكن لأن جيل الطيبين أنفسهم كانوا يأنفون من جمع القطة سواء من أفراد عوائلهم أو أقاربهم أو أصدقائهم بل أن هذا السلوك لديهم يعد من خوارم المرؤة.

كان جمع "القطة" فعلا ثقيلا على النفس وأصبح اليوم فعلا معتادا لا أحد يستهجنه بل أصبح من أفعال الخير والتعاون على البر والتقوى.

عند جيل الطيبين عرفت ظاهرة "المعزب" الشخص الذي يدعو الضيوف إلى منزله ويتكفل بكل وسائل الراحة لضيوفه سواء كانوا صغارا أو كبارا, وسواء كانوا من علية القوم أو من الناس البسطاء, ويشعر بالرضا عن الذات عندما يستشعر رضى ضيوفه, ولا يقتصر دوره في خدمة ضيفه على تناول وجبة غداء أو وجبة عشاء, فالضيافة قد تشمل الإقامة الشاملة التي تمتد من اليوم إلى الشهر وقد تطول وتصل إلى السنة. دون أن يشعر الضيف بأنه ثقيلا على مضيفه (المعزب). وليس بالضرورة أن يكون المعزب شخصا مقتدرا من الناحية المالية لأنه قد يكون فقيرا أو حتى معدما ولكن نفسه الزكية تأبى عليه الإخلال بواجب الضيافة مهما كانت الظروف.


يقابل ظاهرة المعزب الجميلة والراقية، ظاهرة حديثة بدأت تسرق الدور الاجتماعي الذي كان يقدمه المعزب وهي ظاهرة "محصل القطة" أو "جامع القطة" أو "منظم القطة" وهو الشخص الذي يدير عملية تحصيل الأموال من الضيوف أو أفراد العائلة أو الزملاء في الوظيفة أو الأصدقاء في الاستراحة. إنه الشخص المعروف بعبارته الشهيرة (يالله يا شباب هاتوا القطة) التي يطلقها في نهاية أي اجتماع. وهو شخص يتسم بصفة عدم الانحياز فقد يأخذ القطة من أي شخص مهما كان, مطبقا بذلك مبدأ الحياد بأرفع درجاته، عندما يطلق عبارته الصارمة (يالله يا شباب هاتوا القطة) الخالية تماما من أي اعتبارات اجتماعية.

يتصف "محصل القطة" بجملة من المواصفات والمهارات والخبرات, إنه يعرف من أين تؤكل الكتف, فهو ميكافيلي بطبعه، براغماتي بنمط عيشه، يجيد مهارات المحاسبة بدقة ومهارة منقطعتي النظير، يتعامل مع الأصدقاء وكأنهم أرقام للقسمة. وبعد كل اجتماع يحصي كل المصروفات والواردات ثم يجمع كل المصروفات ويقسمها على عدد الضيوف. وكلما زاد عدد الضيوف قلت تكاليف القطة على الفرد الواحد، وعلى هذا الأساس يدير عملية الاجتماع بناءً على مراعاة قوانين العرض والطلب والواردات والمصروفات، فكلما زادت المصروفات يجب أن يزيد عدد الضيوف كي تقل القطة على الفرد. قد يستقطب "محصل القطة" ضيوفا جددا لا يعرفهم كي يقاوم عملية العجز في ميزانية القطة, وكما أسلفنا فهو يطبق مبدأ الحياد وعدم الانحياز بكل ما تعنيه الكلمة.

يمارس "محصل القطة" أنواعا من الأساليب والتكتيكات لإدارة وتنظيم عملية القطة, فهو قد يجمع الأصدقاء في "مجموعة واتس آب" ويضع قائمة بالأشخاص الذي سددوا رسوم القطة ويضع أمام أسمائهم علامة (صح) والأشخاص الذين لم يقوموا بالسداد علامة (X) وهنا يمارس محصل القطة عملية الابتزاز الاجتماعي والضغط الدبلوماسي تجاه ضحاياه تفاديا لحصول العجز. ولأنه رجل (حقاني) كما يقولون, فإنه يقسم المصروفات إلى مصروفات مشتركة، قطة إلزامية على الجميع, ومبلغ يطلق عليه (برا القطة) وهو متعلق بالمصروفات غير المشتركة نظير التمتع بمزايا خاصة في الاجتماع المبارك.

ولأن محصل القطة شخص يتمتع بعقلية منظمة وحنكة في إدارة الأزمات، فهو يقسم المصروفات ضمن إطار زمني محدد، فهناك قطة تدفع مرة واحدة في الاجتماع الواحد وهناك قطة تدفع على أساس شهري أو على أساس سنوي، يقل ويزيد بناء على عدد الأعضاء المنظمين لعضوية القطة أو المنسحبين منها. وعندما ينسحب عضوا من تسديد رسوم القطة فإن حنكة محصل القطة في إدارة الأزمات تتجلى في الأوقات الصعبة فيقوم بتقسيم رسوم العضو المنسحب على بقية الأعضاء الثابتين ولا ينسى محصل القطة أن يصبغ سلوكه الانتهازي بصبغة دينية ويضفي عليه طابعا أخلاقيا, وأن القطة لا تخرج عن تعاليم الدين وأفعال الخير ودائما ما يردد عبارة (وتعاونوا على البر والتقوى).

فإذا عرض عليك صديق أو قريب الانضمام إلى دورية أسبوعية أو شهرية في استراحة هادئة حول ضواحي المدينة, فاهرب منه هروبك من الذئب، فهناك اشتباه بأن هذا الشخص مصاب بمتلازمة "جمع القطة" ودون أدنى شك، أنت ستتعرض لعملية استنزاف مادي ومعنوي فهو مبدع في خلق الحاجات واستدرار المزيد من الأموال من ضيوفه. إنه قادر على تناول خروف مشوي كل ليلة عن طريق تفعيل مهارات "تحصيل القطة". ولا تعتقد بأنك تستطيع التملص من دفع القطة, فعندما يحين موعد السداد سيتخذ إجراء "الإفصاح المالي" وينشر قائمة بالأشخاص الذين دفعوا القطة والذين لم يدفعوا. عندها ستجد أن سمعتك على المحك وسترضخ لضغوطاته. مفهوم "القطة" أساسا يقوم على مبدأ الابتزاز الاجتماعي.

ظاهرة القطة وبطلها "محصل القطة" من الظواهر السلبية في المجتمعات الحديثةـ ظاهرة عالمية تكشف كيف أن العلاقات الإنسانية بين الأقارب والأصدقاء صارت مدفوعة الثمن ولم تعد إنسانية، فثقافة السوق وقوانينه أصبحت هي التي ترسم العلاقات بين الناس وتحدد أبعادها ومعاييرها، ومن يتخيل أن تطغى علينا ثقافة الاستهلاك وقوانين السوق لدرجة أن ساعات الأنس التي نقضيها مع الأقارب والأصدقاء ستكون مسبقة الدفع.