التعامل مع هكذا نوع من الديون لهو أمر صعب، ويحتاج منا إلى أن نتجه معها في اتجاهين متباينين، فإن كانت علينا فهي في وضعين: الوضع الأول نقوم فيه بحفظ جميل من وقفوا إلى جانبنا وكانوا أبطالاً حقيقيين في عالم الواقع، فلا ننسى جميلهم مع تحين الفرصة لرده إليهم مهما طال الزمن وبقي النفس، والوضع الآخر نقوم فيه بالاعتذار الصريح لمن تسببنا في ألمهم وأخطأنا في حقهم.
وفي الاتجاه الآخر إن كانت تلك الديون لنا بأن كنا الموفقين للوقوف إلى جانب الناس بكلمة طيبة أو تعامل تجلت فيه المساعدة والبذل، فعلينا في تلك الحالة أن نشكر الله سبحانه وتعالى أن وفقنا ومكننا من يد مد العون للآخرين، ولا ننتظر أن تُسَدّدَ لنا في هذا العالم، فمكان السداد هناك حيث الآخرة، حين يكون الاحتياج كبيرًا وعظيمًا.
الديون كثيرة في هذه الرحلة القصيرة، ومن أهمها وأكبرها ديون الوالدين، فقد كانت في أشد حالات العوز والحاجة والضعف وضيق ذات اليد، وكان البذل فيها خالصًا ونقيًّا، وقد تجلت فيه كل معاني الحب والتفاني والإيثار، فماذا نحن فاعلون مع تلك الديون؟!
إن من أفضل السبل لسداد ذلك النوع النفيس من الديون هو البِرُّ المتواصل، فلنَغْرِفْ من نبعه العذب غُرَفًا نسقيها إياهما، وتكون بطعم الود والحنان وقضاء الحاجات والإحسان وما شاكلها؛ حتى يرضيا عنا ويدعو لنا، وما أمسّنا وأحوجنا إلى رضاهما ودعائهما!
المواقف لها حسابات أخرى في عالم الآخرة، حيث الدقة في كل تفاصيلها وأحداثها وألفاظها، وحينما نكون بين يدي الخالق عز وجل فلا مبررات تنفع ولا كذب متاح، وإنما الحقيقة كلها تتجسد أمامنا، فالأفواه مغلقة ومختوم عليها، ولا مهرب منها سوى الاعتراف وهو سيد الموقف.
كلنا سيغادر يومًا ما، ومهما كنا في أي موقع أو مكانة أو منصب، فلتكن مواقفنا ديونا لنا لا علينا؛ حتى يتذكرنا الناس بالخير كلما ذُكرنا ويدعون لنا لا علينا.
هنيئا لمن هداه عقله وقلبه إلى فعل الخيرات في مواقفه مع الناس، وبقي دائنًا لا مدينًا حتى يلقى ربه؛ فتكون المكافأة الحقيقية له رحمةً إلهيةً بالدخول إلى الجنة. قال أحدهم: (تظل الذكريات قصصًا صامتة تركت فينا أثرًا لا يزول...).