لم يكن أكثر المتفائلين يتوقع أن تحقق أرامكو السعودية عملاق الصناعات البترولية هذه النتائج خلال النصف الأول من العام الجاري، والسبب لا شك أننا لا نزال لم نخرج من عنق الزجاجة في جائحة كورونا، وإن كنّا بالفعل قد بدأنا نشتّم الهواء عليلاً بعيداً عن هذا الوباء المعقّد في تركيبه وأثره.

لستُ هنا لأتحدث عن الأرقام وقد نشرتها أرامكو في مؤتمرها الصحفي بتغطية إعلامية كانت مواكبة لمستوى أرامكو العالمي، لكنني أحب أن أدير الأنظار تجاه النهضة النوعية التي حدثت في أرامكو، وكيف حوّلت أرامكو كبرى التحديات إلى فرص جنت منها ثماراً معنوية وأخرى مادية عززت بلا شك من مكانة المملكة العربية السعودية على الصعيد العالمي في مجال الطاقة، وأيضاً في مبادراتها لمواجهة مشكلة التغير المناخي في وقت يركض العالم فيه إلى جلاسكو نهاية هذا العام للاتفاق على بنود والتزامات مكافة مشكلة المناخ.

تخيّل معي أنك للتو تم تعيينك وزيراً للطاقة في وطنك، وخلال أول الأيام تتعرض كبرى المصافي لهجوم إرهابي كان من المفترض أن يسبب شللاً لأكثر من 10% من إمداد الطاقة العالمي بشكل يومي، وهو ما يعني ارتفاع الأسعار وازياد التخوّف من مشكلة شح الإمداد ما سوف يؤثر على كل سلسلة القيمة وصولاً إلى المستهلك النهائي في أطراف الأرض الذي سوف يدفع ذلك من قوته وقوت عياله.

لكنّك قفزت إلى الواجهة وأدرتَ دفّة الأزمة بنجاح عال، وأثبتت شركة الطاقة الوطنية الكبرى في وطنك قدرتها على الوقوف تجاه أي تهديدات، وبشكل تلقائي فعّلت خطتها البديلة لاستمرار الأعمال، ولم تتأثر شحنات النفط إطلاقاً بسبب المخزونات الاحتياطية المتوفرة وخلال أقل من شهر عادت الأمور إلى ما كانت عليه.

وبعد خمسة أشهر من تعيينك، اجتاحت العالم كارثة حقيقية هي فيروس لعين أصابت الشحنات البحرية والجوية والبرية بالشلل، وانكفأت معظم الدول على نفسها وأغلقت حدودها لمنع استيراد هذا الفيروس الذي هددت حياة الملاليين من البشر، ثم إذا بك تواجه معضلتي انخفاض الطلب من جهة، ومشكلة تسليم الشحنات المطلوبة وإن كانت أقل من سابقها، لكنك تقف مع شركتك الكبرى للطاقة وتنطلقون ترسلون الشحنات من آسيا وأوروبا وأمريكا متجاوزين مشكلة الحدود والآفاق لكي لا يتأثر المستهلك النهائي في رزقه وقوته عياله.

وبعد عام واحدٍ فقط وبعد انخفاض الأسعار، ومشكلات اللقاحات ومتحوّرات الفيروس، تعود هذه الشركة الكبرى وتحقق نتائج مبهرة بشكل فاق التوقعات بأكثر من 280% من زيادة عن النصف الأول من العام الماضي، وبأكثر من 177 مليار ريال صافي دخل عن النصف الأول من العام الجاري، وفوق هذا تقدّم توزيعات نقدية لأسهمها بقيمة 70 مليار ريال وترفع مستوى إنتاجها إلى متوسط 11.7 مليون برميل يومياً، وتنتهي من صفقات في البنية التحتية لخطوط الأنابيب بقيمة 46 مليار ريال، وتصدر صكوكاً بقيمة 22 مليار ريال.

لم تكن هذه قصة بطولة من ألف ليلة وليلة ولا تروى بصيغة مبالغة من صحفي منحاز لوطنه، بل هي واقع حقيقي مرّ به وزير الطاقة السعودي عبدالعزيز بن سلمان وشركة أرامكو السعودية، تحوّلت هذه الأزمات والتحديات إلى فرص ونجاحات في ظرف أقل من سنتين، ليس لأن السعودية دولة عظيمة في مقدّراتها ومواطنيها ومقيميها فقط، وليس لأن عبدالعزيز بن سلمان أتقن فن صناعة النفط والكيميائيات منذ تخرجه من جامعة الملك فهد للبترول قبل ثلاثة عقود فقط، وليس لأن السعودية تقودها رؤية طموحة بسواعد سمو ولي العهد الأمين فقط، ولكن لأن أرامكو السعودية تشكّل عصارة هذه الحنكة التقنية والاقتصادية والسياسية، فلم تعد أرامكو قبل جائحة كورونا كما هي أرامكو بعدها، فأرامكو الآن أصبحت أكثر موثوقية بسجل مثالي في تسليم شحناتها بمعدل 100% خلال الفترة المعلنة، وبسجل سلامة متميز تشغيلياً بفضل الله، كما أن ثقة العالم بأرامكو ازدادت بشكل كبير ما يعني أننا أمام نقلة نوعية في أعمال أرامكو بدءً من هذه الصفقات وهذه النتائج مروراً باستثماراتها الجارية في بدائل الطاقة مثل الهيدروجين الأزرق والأخضر واستخدام الطاقة الشمسية ورقمنة أعمالها واستخدام الذكاء الصناعي في خفض بصمتها الكربونية.

نحن أمام نموذج وطني مبهر عالمياً، ويتوقع أن يستمر بخطى أقوى خلال السنوات القليلة القادمة، وسوف أتناول لاحقاً مشروعات أرامكو للتحويل من النفط الخام إلى كيميائيات وتقنياتها المستحدثة لأن تكون شركة متكاملة لحلول الطاقة، لتعكس رؤية وطن طموح ومواطن عظيم ومقيم حالم في أرض اختارها الله لتكون منبع الرسالة ومنبع الرخاء والازدهار العالميين.